ولكن السؤال المطروح، هل قطعت العلاقات التركية الإسرائيلية بالفعل على مدر السنوات السابقة؟ أم أن النخبة الحاكمة في تركيا تمارس مناورة سياسية وتستغل بشكل غير أخلاقي آلام فلسطين في غزة لتحقيق مكاسب سياسية داخلية أو خارجية؟
اللافت أن العلاقات التركية الإسرائيلية كانت مستمرة والاتصالات متواصلة إلى أن تم الإعلان مؤخراً عن رغبة تركيا أردوغان في استعادة المستوى الرسمي للعلاقات بين البلدين، خصوصا مع عدم تأثر مستوى التبادل التجاري، الذي يتصاعد وتقفز الاستثمارات التركية في إسرائيل إلى مستويات غير معهودة، رغم الأزمة المعلنة على الصعيد الرسمي.
كذلك يستمر التعاون العسكري في إطار عضوية أنقرة وتل أبيب في حلف شمال الأطلسي، وما يقرب من 60 اتفاقية للتعاون العسكري، ووصف النخبة الحاكمة التركية العلاقات مع إسرائيل بـ "الاستراتيجية" حيث قامت تركيا بشراء أنظمة الدفاع التكنولوجية الإسرائيلية، كما قامت إسرائيل بتطوير مقاتلات تركية وإمدادها بأنظمة رادارات حديثة، وتزويدها بطائرات بدون طيار من طراز "هارون"، كما سمحت تركيا لإسرائيل بوضع أجهزة إنذار مبكرة في قاعدة "ملاطيا" شرق تركيا، مرتبطة بـ "القبة الحديدية" الإسرائيلية التي تستهدف صواريخ المقاومة الفلسطينية.
الحكومة التركية من أكثر الدول ارتباطاً بإسرائيل، فلا يمكن تجاهل أن بداية سيطرة أردوغان على القرار السياسي التركي جاءت بالتزامن مع منحه "وسام الشجاعة" من المؤتمر اليهودي الأمريكي عام 2004، تقديرا لجهوده في دعم إسرائيل، وهو أول شخصية غير يهودية يحصل على هذا الوسام، الذي يعكس اهتماما كبيرا بتوثيق العلاقات مع كافة المؤسسات التي تدعم إسرائيل في المنطقة والعالم.
بقاء أردوغان في دائرة الضوء وصناعة القرار التركي يحتاج إلى مواجهة هذا التراجع الحاد في شعبيته شخصياً وشعبية الحزب الإسلامي "العدالة والتنمية" الذي يحكم ويسيطر على مقاليد الحياة والسلطة في البلاد منذ عام 2002، الأمر الذي استدعى تغيير النظام السياسي في البلاد، والانتقال من البرلماني إلى الرئاسي، وقبل كل ذلك خلق عداء وهمي مع إسرائيل والأقليات بما يتفق ومزاج الشعب التركي الذي يرفض التطبيع مع إسرائيل بسبب الاحتلال والممارسات التي تجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
الرئيس التركي يسعى إلى كسر العزلة السياسية التي تواجه الحكومة بسبب سياسته غير المتزنة، مع مصر والعراق وسوريا، وإيران وروسيا، وإسرائيل تعمل على تضييق الخناق على قيادات المكتب السياسي لحركة "حماس" وإغلاق مكتب الحركة في تركيا، وبالتالي فإن مطلب تركيا بالتواجد في قطاع غزة، بذريعة تقديم المساعدات الإنسانية وكسر الحصار، يواجه رفضا إسرائيليا إلى جانب الموقف المصري الذي لن يقبل بأي تواجد لتركيا في القطاع المتاخم لشبه جزيرة سيناء التي تشهد حربا شرسة مع الجماعات الإرهابية، والتي تلقى تفهما لدى إسرائيل بدخول الجيش المصري بكامل تسليحه إلى المنطقة "ج".
الرئيس التركي يعاني من مشاكل داخلية كبيرة، بسبب سياسته وتفرده بالقرار، وهذه السياسة خلقت دائرة كبيرة من المعارضين وأجواء من الخلافات مع السياسيين والأقليات العرقية، وكان لكل هذا انعكاساته داخل الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" حيث ترتفع نسب الرافضين لسياسات أردوغان الداخلية والخارجية، والتي تطورت حالياً إلى الحديث عن تأسيس حزب جديد يتبنى الأفكار الإصلاحية بعيدا عن حالة الاستبداد والتفرد بالقرار التي يمارسها رئيس متمسك بتهميش دور رئيس الحكومة في تحديد السياسات العامة ومسار العلاقات الخارجية.
الفرار إلى إسرائيل لن يحمي أردوغان من انتقادات الغرب تجاه حرية الصحافة، ودعمه للإرهاب الذي بات مادة جيدة للأفلام السينمائية التي تروي "رحلة الإرهابيين" بدعم من حكام تركيا. ستقف تل أبيب عاجزة عن مساعدته، ولن تتمكن من كسر العزلة التي تواجهه في ظل مواقف دول إقليمية ودولية حتى حلفائه، فضلا عن ارتباك وتوتر المشهد السياسي والأمني في الداخل بسبب حالة عدم الاتزان في مواقفه وقراراته.