بقلم: ياسر قبيلات
الأمر يستحق التأمل فعلاً…
إنها تعني وتكشف الكثير…
أولاً، أن الولايات المتحدة باتت في كل شؤونها تقريباً تلجأ إلى إقحام موسكو في سياقات الجدل الداخلي؛ ما يعكس أنها باتت تشعر، خلافاً لما يرفض حلفاؤها تصديقه، أن روسيا أضحت بلداً مؤهلاً لإحراج تفردها وهيمنتها.
ثانياً، هذه الشكوى لها معناها الذي يمس الفكرة الراسخة حول أمريكا المحصنة، القادرة على حماية نفسها وحلفائها.
ثالثاً، لا يبدو أن الولايات المتحدة تأبه لشفافية التحقيق بملف حادثة قنصليتها في بنغازي، التي عرضت كرامتها الوطنية للأذى؛ وبدلاً من أن تستثار لأن ملفات أساسية في هذه القضية أخفيت بشكل يشتبه أنه متعمد، راحت تصرف الانتباه عن ذلك بالحديث حول ما تستطيع ولا تستطيع روسيا فعله.
ولدينا دول تعاتب واشنطن، علناً، بين الفينة والأخرى، مذكرة بحجم الأموال التي ضختها في الانتخابات الأمريكية لفائدة الحزبين، لتكريس هيمنتهما وتفردهما في قيادة الحياة السياسية في بلدهما. ونسمع بالمقابل كلاماً من رسميين أمريكيين يتجاوب مع هذا العتاب، ويؤكده!
وبالمقابل، فإن ما نعرفه عن الحالة الروسية مناقض تماماً.
منذ أواخر الثمانينات، كثفت السفارة الأمريكية في موسكو تجاوزاتها لأبسط الأعراف الدبلوماسية، ولم تتردد في انتهاك سيادة الدولة بما يتعلق بأكثر الشؤون الداخلية حساسية. ومن ذلك التدخل العلني في الانتخابات الروسية، وبكيفية إدارة الأزمات الداخلية، ومنها النزاعات المسلحة الانفصالية؛ وبدءاً من مطلع الألفية دعمت توجهاً أقلوياً معيناً، استنفذ فرصته في الحياة السياسية الروسية، ولم يعد يمثل توجهاً اجتماعياً يعتد به.
وفي الحقيقة، فإن هذا كله مجرد نموذج على التدخل الأمريكي في شؤون الدول الأخرى، الذي امتاز عن غيره بأنه لم يكن عابراً، أو موضعياً هنا أو هناك، بل كان كاملاً شاملاً، لم يقتصر على مجال معين، ولم يقيد نفسه بأساليب محددة، كما لم يستثن الدول الحليفة، ولم يوفر الأمم الصديقة.
طبعاً، مروراً بالتدخل بانتخابات البلدان الأخرى، وتغيير الأنظمة عبر انقلابات عسكرية!
من الواضح أن الولايات المتحدة لا تريد رؤية ذلك، وتفضل السير وراء التخبط في حملة كلينتون، الذي قاد مدير حملتها روبي موك إلى القول إن «مندوبين من روسيا انتشروا داخل لجنة الحزب الديمقراطي، وحصلوا على رسائل البريد الإلكتروني وسربوها لمساعدة ترامب».
مثل بقية أمريكا، فإن ما يغيظ موك هو تسريب الرسائل، وليس حقيقة أنها موجودة!
الأهم، أن خيال موك البوليسي ينسى حقيقة هامة: إن المحرج في التسريبات المتعلقة بالمرشحة الديمقراطية هو أنها تثبت أن كلينتون مارست، وباستهتار، أثناء توليها وزارة الخارجية، مخالفات وأخطاء جسيمة، كان لها آثار كارثية فعلية. وأن تلك الأخطاء لا تقل خطورة عن تلك التي يحذر الديمقراطيون من أن عيوب الجمهوري دونالد ترامب ستقوده إلى ارتكابها حال فوزه بالرئاسة.
وبالطبع، هذا الفارق المحسوس بين شخصية ثبت ارتكابها لأخطاء جسيمة، وأخرى نتوقع أن ترتكب أخطاء، هو محرج فعلاً!
لهذا، حينما يفقد الجمهوريون السيطرة على زمام الآليات الداخلية في إنتاج قرارات تتسق مع التزامهم بهيمنة الحزبين على الحياة السياسية في بلدهم، ويجدون أنفسهم إزاء مرشح حزبي لا يخدم هذا الالتزام، فإنهم ملزمون بالتكاتف مع منافسيهم الديمقراطيين، بآلياتهم الخاصة، ووفق قواعد «اللعبة» الحزبية، لتخطي هذه المعضلة!
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)