الموصل — سبوتنيك. لا يسمح للمدنيين أو الصحفيين بالعبور إلى داخل المدينة القديمة، في الساحل الأيمن للموصل، فلا بد للصحفيين من اجتياز شوارعها داخل عربات الجيش المصفحة، بصحبة الجنود، وهو ما وفره لنا جهاز مكافحة الإرهاب، لرصد ما تبقى من هذه المدينة المنكوبة، وعمليات تفكيك المتفجرات، وملاحقة فلول الدواعش.
جامع "الخلافة"
إلى جامع النوري الكبير، ذي التاريخ الطويل، الذي تحطمت على عتباته أحلام غزاة كثر على مدار نحو 900 عام منذ بنائه، إلا أنه بات اليوم مدمرا تماما هو وحدباؤه، بينما لا تزال قبته شامخة بين الركام.
بنى نور الدين زنكي، الملقب بالملك العادل، جامع النوري الكبير، ليكون ثاني مسجد في الموصل، فمساحته الشاسعة جعلت منه أهم معالم المدينة التاريخية.
في أول جمعة من حزيران/يونيو 2014، كان منبر المسجد التاريخي على موعد قلب الموازين في العراق، فاعتلاه أبو بكر البغدادي، بردائه الأسود، منصبا نفسه خليفة للمؤمنين، ومعلنا قيام تنظيم "داعش" وسط مئات المصلين، الذي ملؤوا فناء الجامع الكبير.
لم يلبث التنظيم بعدها إلا ونكّل بأهالي الموصل، وارتكب جرائم يندى لها الجبين.
بعد ثلاثة أعوام من إحكام سيطرة التنظيم الإرهابي على الموصل، زرع عناصره الألغام، والمتفجرات، داخل المسجد وحوله، وما هي إلا دقائق حتى سوي الجامع التاريخي بالأرض، وهدّمت منارته "الحدباء".
دخلت "سبوتنيك" باحة المسجد، لتجد عددا من أعمدته الرخامية التي كانت شاهدة على العمارة الزنكية، قد تهاوت وانهال فوقها الركام، بينما كانت القبة الكبيرة للمسجد تئن من شروخها الشديدة.
تهدمت الحدباء تماما، لم يبقى سوى قاعدتها، كحال الموصل كلها، دمرت بعبوات ناسفة شديدة الانفجار، بحسب ما أدلى به مسؤول أمني في الموصل.
فيما عدا الحدباء، يرجح مؤرخون أن محراب المسجد هو فقط ما تبقى من مبناه الأصلي على مدى القرون التسعة الماضية، ولم يصمد فناؤه، وباحته، أمام الحروب المتواترة، التي مرت بها هذه المنطقة.
"محلة الجامع" هي المنطقة المحيطة بالمسجد التاريخي، مبانيها لا تعلو عن ثلاثة طوابق، معظم أدوارها الأرضية محال تجارية، بينما تعلوها الشقق السكنية.
استغل تنظيم "داعش" محلة الجامع، للتمركز وسط المدينة القديمة، التي باتت مبعث رائحة كريهة، نتيجة انتشار جثث قتلى "الدواعش" في كل مكان.
أجولة الطحين
أحد هذه المحال، كان يستغله التنظيم لتخزين أجولة الطحين التي كان يوزعها على المدنيين باسمه، وداخل المخزن رأينا هذه الأجولة مكتوب عليها "الدولة الإسلامية…ديوان الزراعة…ولاية نينوى".
بالبحث بين هذه الأجولة وجدنا أحدها مكتوب عليه "وزارة الصناعة والمعادن.. الشركة لعامة لصناعة السكر".
وكان التنظيم أعدم مديرة معمل إنتاج السكر في الموصل، في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، لامتناعها عن تشغيل المعمل لصالحه، حسبما نقلت مصادر إعلامية وقتها.
ويمتلئ المخزن بأجولة يزن كل واحد منها 50 كيلوغراما من الطحين، أو السكر، كتب عليها "صالح لمدة 3 أشهر من تاريخ الإنتاج".
أفخاخ وذخيرة "داعش"
سرت برفق في محلة الجامع، بصحبة جندي شجاع، كان دائما يسبقني بخطوة لتفقد الطريق وتأمينه، خشية أن تطأ قدماي سلكا أو معدنا يقود لتفجير إحدى العبوات الناسفة، المنتشرة في الأنحاء.
وسط سيرنا، وجدنا متجرا لتصنيع الأثاث المنزلي، إلا أن سيارة شبه جديدة، كانت تطل بظهرها من داخله، كان ذلك معملا لتجهيز سيارات داعش المفخخة، بواجهة متجر للحدادة.
داخل المعمل كانت العربة المفخخة التي لم تنفجر بعد، نصفها الظاهر من البوابة سيارة عادية تماما، بينما نصفها الأمامي من الفولاذ، وبداخلها عبوات ناسفة، وأسطوانات غاز، وجهاز للتحكم.
ويبدو أن التنظيم كان يعد العربة للانفجار أثناء عبور القوات الأمنية في هذه المنطقة، قبيل هزيمته وتحرير محلة الجامع أواخر حزيران/يونيو الماضي، إلا أن العربية لم تنفجر.
اتجهنا بعربة جهاز مكافحة الإرهاب المصفحة نحو حي الميدان، حيث كانت القوات الأمنية تعمل على تفكيك عبوات ناسفة، زرعها التنظيم في منازل هذه الناحية، لإعاقة القوات عن التقدم باتجاههم.
في الطريق سمعنا دوي انفجار شديد آتٍ من أمامنا مباشرة، كانت تلك العبوات انفجرت، وأودت بحياة جنديين من خبراء المتفجرات، نقلا بواسطة عربة هامر مصفحة إلى خارج المدينة القديمة.
كانت تلك لمحة بسيطة عما يواجهه جنود الجيش والقوات الخاصة العراقيين في حربهم ضد التنظيم الإرهابي، وعناصره المنتشرين في المدينة القديمة بكثافة، على الرغم من إعلان تحرير الموصل في 10 تموز/يوليو الجاري.
وعثرت القوات العراقية قبل أيام على سرداب في أحد منازل حي الميدان، يحتوي على كميات هائلة من الذخيرة، والمتفجرات، والأحزمة الناسفة.
وحصلت سبوتنيك على صور لسرداب أسلحة "داعش" من مصدر موثوق، أكد العثور على أجهزة لاسلكية، وتحكم في العبوات الناسفة عن بعد.
وأضاف المصدر أن القوات عثرت على سلاح تصنيعه محلي، حصلت سبوتنيك على صورة له أيضا، عبارة عن "4 عجلات تربطها أعمدة حديدية، يثبت عليها مكان للسلاح، وكاميرا للتصوير والمراقبة، وجهاز تفجير عن بعد".
وبحسب مصدر أمني كبير فإن "القوات الخاصة تحاصر أنحاء المدينة القديمة منذ أكثر من شهر"، موضحا أن هذه "استراتيجية أثبتت نفعها؛ فبدلا من بذل مزيد من أرواح الجنود في اقتحام المخابئ السرية والسراديب، لإلقاء القبض على الدواعش، فإنهم سيخرجون لا محالة بعدما نفذ كل ما لديهم من طعام وشراب، وعتاد، علاوة على انقطاع الكهرباء ومكوثهم تحت الأرض في درجات حرارة مرتفعة جدا".
أضاف المصدر لسبوتنيك أن القوات "واجهت حالات إنسانية شديدة الصعوبة في حربها في المدينة القديمة، حيث لجأ الدواعش لاحتجاز عائلات ومدنيين في سراديب تحت الأرض، وزرعوا عبوات ناسفة على مداخل هذه السراديب وعلى سلالمها".
ولفت المصدر إلى أن بيوت المدينة القديمة تشتهر بوجود سرداب تحت كل منزل، وهو ما سهل مهمة التنظيم للانتشار تحت الأرض، قائلا: "الدواعش حفروا أنفاقا تحت المنازل، بين سرداب وآخر، وأصبحت مهمة تعقبهم غاية في التعقيد، فلجأنا لحصارهم بدلا من فقدان حياة مزيد من الجنود في عمليات المطاردة".
وقال المصدر أن عددا من عناصر التنظيم يأسوا من فك هذا الحصار عنهم، وسلموا أنفسهم للقوات العراقية خلال الأيام القليلة الماضية، متابعا: "أكبر دفعة سلمت نفسها لنا كانت قبل 6 أيام وعددها 40 داعشيا".
وحول نشاط قناصة "داعش" في المدينة القديمة، أكد المصدر أن "بعض كبار التنظيم وعناصره الفاعلين، الذين لم يتمكنوا من الاندساس خلال خروج النازحين، من هذه المنطقة، لا يزالون متواجدين، ونحن نراقب هذه الأنشطة".