فقد استطاعت الدولة السورية بحسمها للميدان بشكل شبه كامل، بدعم من حلفائها الروسي والإيراني وقوى المقاومة، أن تقلب الطاولة على جميع الرؤوس الساخنة التي علّقت آمالاً منذ سبع سنوات تقريباً على المجموعات الإرهابية المسلحة في إسقاط الدولة السورية وتقسيمها إلى دويلات متناحرة، ليُبنى على أساسها ما تبقّى من مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي رحلت عرّابته مسؤولة الأمن القومي الأمريكي السابقة، كونداليزا رايس، تاركة خلفها فوضى عارمة غير خلاقة بين حلفاء المشروع وأدواته.
سورية بصمودها وحلفائها لم تقلب الطاولة فحسب، بل قلبت العالم رأساً على عقب وجعلت الشراكة الآنية للمصالح على المستويَين الإقليمي والدولي هي أساس العلاقات المرحلية لينتهي زمن التحالفات الاستراتيجية، فدخل الجميع في فوضى وتخبّط، كانت نتيجته التوجّه المباشر إلى القطب الدولي العائد إلى واجهة العالم الجديد بقيادة روسيا الاتحادية لضبط إيقاع التوازنات في المنطقة، وإيجاد مخارج ومهابط آمنة، لابل نزول آمن من على الشجرة لكل من راهن على خريف الإرهاب في المنطقة.
وبدورها روسيا لم تبخل على أولئك شرط الانتظام الدائم في العلاقات الإقليمية والابتعاد عن استثمار الإرهاب والمضاربة عليه مرحليا كما الحاصل بين تركيا والسعودية، وهذا ما يمكن أن يشرح لنا كنه السياسة الروسية في طريقة تعاملها الثابتة المتجددة مع الملفات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وعلى رأسها الملف السوري، وجرى تأكيده منذ البدء بتحديد مناطق تخفيض التصعيد بعد الاتفاق الأمريكي الروسي، الذي جاء قولاً واحداً ليس وقوفاً عند رغبة الطرف المعتدي بتحقيق الاستقرار وإيقاف الأعمال الإرهابية والقتالية والحرب على سورية بشكل عام، وإنما جاء كنوع من إعادة الانتشار والتموضع بعد الخسارات الكبرى التي منيت بها الأذرع الإرهابية للدول المتداخلة في هذه القضية، بدءا من الإنهيارات المتتالية للمجموعات المسلحة في مناطق مختلفة من سورية ومازالت مستمرة حتى اللحظة.
وما جرى ويجري في مناطق جرود عرسال وجبال القلمون الغربي وجرود رأس بعبلك الذي لا يقبل التأويل أبداً في أن الجيشين اللبناني والسوري ومعهم عناصر المقاومة "حزب الله" وضعوا الحد النهائي لتمادي هذه المجموعات الإرهابية في تسويقها لنفسها ومموليها، يجاريه بالتوازي انتصارات كبيرة للجيش العراقي والحشد الشعبي على جبهة نينوى قضاء تلعفر الذي تم تحريره بشكل شبه كامل من تنظيم "داعش" الإرهابي وصولاً إلى الحدود الأردنية التي باتت ترقص على أنغام غزل الجانب الأردني للدولة السورية في مواجهة الإرهاب والسير نحو تحقيق الآمن والاستقرار كأساس لبدء العملية السياسية، وهذا يعود بنا إلى زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى سوتشي للقاء الرئيس بوتين والرعب الذي كان بادياً في ما طرحته ورقته التي قرأ عنها ما أراد إيصاله لأن عقل الإسرائيلي بالفعل لم يقدر على استيعاب ما يجري فعجزت الألسنة عن التعبير وغرّت العيون في الوجوه، وجواب الرئيس بوتين كان واضحاً تماماً فهو أهداه بضع وريقات من كتاب قديم لعله يأنس به ريثما يحين موعد قرع طبول النصر، زد على ذلك المصالحات الوطنية التي تسير بسرعة غير متوقعة لابل يتوقع خلال الفترة القادمة أن تزداد وتتوسع وما شهدناه من سيل عارم لعودة سكان سبينة وما حولها في ريف دمشق تعلوه الهتافات بحياة الوطن والجيش والقائد لا يحتاج أبداً إلى الشرح.
ومن هنا فإن كل ما كان يجري وما يلفه من غموض يصعب على الإنسان المتمكن فهمه، ما هو إلا تحرك استراتيجي حاذق للدولة السورية وحلفاءها وضع الجميع في حالة هيستيريا على غير العادة لجمت الألسن وشلت حركات الطرف الآخر حتى بات يشتهي تحقيق أدنى حد من التقدم على الأرض، والتحرك الوحيد الذي جرى هو أن دي ميستورا أفاد بتأجيل موعد اللقاء في أستانا، هذه الاستراتيجية وهذه السياسة لسورية وحلفائها جعلت الميدان بشكله العام يذهب نحو الهدوء في مناطق كثيرة، وأخذت دور المتفرج والمتابع لمجريات الساحة السياسية التي يتضح أنها تذهب إلى التعقيد من جانب واحد انطلاقاً من الخلافات القائمة بين أطياف المعارضة السورية التي تعكس بطبيعة الحال تخبط وضياع الدول الحاضنة لها، يقابله بالتالي هدوء ومتابعة حذرة من سورية وحلفائها مع الالتزام بصمت شبه كامل، ما يعني أن الدولة السورية وحلفاءها يعون تماماً ملامح المرحلة القادمة.
من هنا وباختصار ودون تهويل وإطالة، من يتابع الحياة العامة في سورية يرى أنها تتعامل مع الوضع رغم قساوة الحرب وفاتورتها الكبيرة، ومعاناة الشعب الهائلة وكأن النصر قاب قوسين أو أدنى، فالوفود التي تؤم سورية من كل حدب وصوب عربية وأجنبية وتعبّر عن تضامنها مع الشعب السوري ضد الإرهاب، والمبادرات العربية للمطالبة بعودة العلاقات مع سورية، والدول الغربية التي تحبو بين الفينة والأخرى لجس نبض دمشق في فتح سفاراتها، ومعرض دمشق الدولي وانطلاقته المتجددة والإقبال الشعبي الهائل عليه والمشاركات الإقليمية والدولية في فعالياته بشكل مباشر وغير مباشر، ما هو إلا دليل قاطع لا يقبل الشك على الاعتراف الخجول بقرب أفول الحرب على سورية، وأن يزور الرئيس الأسد مناطق عديدة في سورية كانت في قلب النار وآخرها ريف مدينة طرطوس مع عائلته وبكل هدوء راكبا سيارة "كيا" عادية يعني أن التوجه نحو الشرق بات واقعاً والغرب لم يعد على خارطة العالم بالنسبة لسورية وحلفائها سوى كدول تحتاج لعقود كي تستفيق من صدمة خسارتها التي ستدفع ثمنها أضعاف ما دفعه الشعب السوري وشعوب المنطقة والدلائل كثيرة جداً.
نعم عالم جديد ملامحه تتكون وتظهر ببساطة تواجه معمعة تصفية الحسابات الإقليمية والدولية على حسابهم هم وليس على حساب سورية، لتؤكد أن كذبة الحرية والديمقراطية انهارت بالكامل.
إن الربيع الكاذب تحول إلى حقيقة ترويها دماء الأبرياء والشهداء لتزهر هدوءا وأمنا واستقرارا بعد هول العاصفة وبدء مرحلة التصفيات ما قبل النهائية لما يسمى بالمعارضة المسلحة ومن يحمل فكرها ويحتويها عسكريا وسياسيا، لتصبح بالفعل معركة الرقة ودير الزور معركة الفصل ليس فقط مع الإرهاب بل مع السيد والمستثمر الأمريكي أيضا.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)