ولكن سرعان ما أصابها الوباء الأخطر"داعش"، بشكل غير معهود للتنظيمات الإرهابية المصطنعة دولياً.
مازال "داعش" يرتع في الكثير من مناطق العراق الاستراتيجية، رغم الحشد الدولي وتوجيه ما تبقى من قدرات العراق المادية نحو تلك الحرب، فقد تربع التنظيم في شهور قلائل على قلب أهم المناطق في البلاد، وأثارت سرعة انتشار التنظيم وهروب الجيش مخلفا معداته وأسلحته الكثير من علامات الاستفهام.
وزادت علامات الاستفهام بعد أخبار إسقاط طائرات التحالف للأسلحة بطريق الخطأ على المناطق، التي يسيطر عليها "داعش"، ومؤخراً نقل قادة التنظيم بطائرات التحالف سواء في سوريا أو في العراق.
أين كانت كردستان خلال تلك السنوات، كان الإقليم يعيش في هدوء تام منذ أن أعلن التحالف الدولي "منطقة حظر الطيران"، فوق أراضي الإقليم بعد "عاصفة الصحراء" في عام 1991، وزادت قوة الإقليم بعد ضعف الدولة الاتحادية في بغداد وصراعاتها الداخلية، إلى أن ظهر "داعش"، وشاركت قوات البشمركة في تحرير الجانب الشرقي من الموصل.
واشتبكت في الكثير من المناطق الحدودية مع المناطق التي احتلها التنظيم في محافظة كركوك، أغنى المحافظات بالنفط، وكذا في الحويجة، وسيطر الأكراد على مفاصل "كركوك"، وتم رفع العلم الكردي عليها دونما نظر لغضب بغداد أو البرلمان العراقي.
والسؤال الأهم الآن، لماذا اختار بارزاني، التوقيت الحالي لعمل استفتاء تقرير المصير (الانفصال)، عن الدولة الاتحادية، رغم المخاطر الكبيرة لمثل تلك الخطوة، والتي يمكنها أن تعيد الإقليم عقودا إلى الوراء، نظراً لهشاشة الجبهة والمكون الداخلي في كردستان، وتعدد الولاءات بين المكونات الكردية لدول الجوار؟ ألم يكن الأولى برئاسة الإقليم، بارزاني، أن يؤجل تلك الخطوة إلى ما بعد الانتهاء من "داعش"، أو تحسن الوضع الإقليمي والدولي؟
لقد رأت الرئاسة والحكومة أن الوضع الداخلي يزداد تعقيداً، فالبرلمان متوقف منذ عامين، ورئاسة الإقليم والحكومة غير شرعية بنص اللائحة أو الدستور المحلي، والصراعات بين الحزبين الكبيرين تزداد يوماً بعد يوم، ولكي يخرج بارزاني من تلك المعضلة، فلم يكن بمقدوره اتخاذ قرار بالتنحي أو ترك الكرسي وإعادة البرلمان دون أن يكون هناك حدث جلل، وبالفعل بعد الإعلان عن الاستفتاء تم إعادة البرلمان للعمل، رغم تحفظ بعض الكتل الكبرى ولم يحضر رئيس البرلمان الجلسة الافتتاحية.
ولن يكون بإمكانها الدخول في صراع عسكري جديد مع البشمركة، علاوة على الصراع الانتخابي المنتظر بين المالكي ورئيس الحكومة الحالي، حيدر العبادي.
أما عن موقف دول الجوار فالمصالح الاقتصادية ثم السياسية وضمانات يمكن أن تبدل مواقفها، وقد سبق لمسؤولين أكراد أن قالوا "لا يعني استقلال الإقليم، المطالبة بضم أكراد تركيا وسوريا وإيران".
أما بالنسبة للقوى الدولية، فأمريكا هى من صنعت الإقليم والذي تربطه علاقات وطيدة مع إسرائيل وفقاً للتصريحات المتبادلة، هذا بجانب القواعد العسكرية غير المعلنة للأمريكان بعد إعلان "بوش الابن" انتهاء الأعمال الحربية في العراق، في محاولة لإنقاذ القوات الأمريكية من مستنقع العراق، حيث استحضر الساسة في واشنطن صورة فيتنام، فليس لدى واشنطن مانع من قيام دولة كردية، تدين بالولاء الكامل لها ولإسرائيل، وتنفذ من خلالها مشروعها في الشرق الأوسط الكبير أو الجديد.
لم يتبق سوى ساعات على موعد الاستفتاء، ومازالت المناورات الكلامية تتوالى ما بين بغداد وأربيل، ما بين تهديدات سياسيين عراقيين ورفض للوساطات المحلية والإقليمية والدولية من جانب إربيل.
وما بين الحين والآخر يقول الأكراد أنهم يرحبون بالوساطات بشرط أن تكون هناك ضمانات دولية لأي اتفاق، ويبدو أن بارزاني، يريد الوصول بالتوتر إلى الدقائق الأخيرة لجني أكبر المكاسب.
وعلى رأسها انتزاع موافقة الحكومة العراقية على قيام الدولة الكردية في موعد أقصاه عشر سنوات من الآن، وبذلك يكون الأكراد قد ضمنوا تحقيق ما يريدون في الوقت المناسب.
إعلان "بارزاني" موافقته على إلغاء أو تأجيل الاستفتاء، مع ضمانات الحق في تقرير المصير في الوقت المتفق عليه، والسيناريو الثاني، إصرار كردستان على إجراء استفتاء منقوص، نظراً لأن هناك عدد من المناطق التابعة للإقليم تحت سيطرة "داعش"، وفي حال جاءت النتيجة لصالح الانفصال فإن الخطورة تكمن في أن هناك عدد من المناطق
المتنازع عليها بين بغداد وأربيل 14 منطقة، منها كركوك مدينة غنية بالنفط، وسنجار اليزيدية، وخانقين، وتدعي كل من بغداد وأربيل أحقيتها في ضم تلك المناطق لها.
واتفق الطرفان على إجراء استفتاء لتحديد مصير تلك المناطق، وفق المادة 140 من الدستور العراقي الذي وضع عام 2005، بيد أن ذلك لم ينفذ حتى الآن.
أما السيناريو الأخطر وهو نشوب صراع مسلح من داخل وخارج الإقليم في حرب دموية قد تنهي تواجد كيان تحت مسمى العراق، أضف إلى ذلك أن إجراء الاستفتاء، سيشجع فئات عراقية أخرى إلى السير بنفس طريق كردستان.
وهنا سوف نتحدث عن ثلاث أو أربع دويلات متصارعة وذات ولاءات متضادة، وهو ما سيجعل العراق كتلة من اللهب، وتشعل المنطقة بالكامل ويهدد أمن واستقرار دول الجوار.
وتتفق معنا في الرأي الباحثة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، منى سليمان،
أن انفصال كردستان العراق يعد إنهاء لمبدأ الدولة القومية الجامعة للأعراق والأديان، وسيفتح الباب للقوميات العراقية الأخرى "كالتركمان، والإيزيديين، والصابئة المندائيين"، للمطالبة بالانفصال، أو إنشاء أقاليم خاصة بهم.
وبالتالي، فإن قرار إعلان الدولة الكردية ليس قرارًا كرديًا، أو عراقيًا، أو حتى عربيًا، بل هو قرار دولي سيخضع للعديد من الصفقات والمساومات السياسية بين عدة قوى إقليمية، كتركيا وإيران، ودولية، كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، ولذا لن يكون بالسهولة التي يتصورها بارزاني.
دائماً ما يتحدث بارزاني، بحسبانه الممثل الوحيد للشعب الكردي في كردستان العراق، الذي يضم ثلاث محافظات هي "العاصمة أربيل، والسليمانية، ودهوك"، ويبلغ عدد سكانه نحو 4 ملايين نسمة، متجاهلاً المعارضة الكردية، التي تتهمه باستخدام الاستفتاء لإلهاء الشعب الكردي، بغية تحقيق هدف بارزاني للاستمرار في الحكم، فضلا عن اتهامات المعارضة له بالتستر على عمليات الفساد المالي والإداري في الإقليم، خاصة فيما يتعلق ببيع نفط الإقليم للخارج.
وعسكريا، ترفض أربيل حل قوات البشمركة الكردية، أو ضمها بالجيش العراقي، وتطالب بمنحها اعتمادًا ماليًا من الحكومة المركزية ببغداد أسوة بقوات الجيش.
فضلا عن الخلافات التي ستنتج بعد إجراء الاستفتاء حول إدارة العلاقات بين بغداد وأربيل، والتخارج بينهما، وإجراءات الانفصال.
وأوردت الباحثة أن هناك توقعات بضعف دويلة كردستان حال انفصالها، إذ قد يهدد انفصال كردستان، حال الموافقة على الاستفتاء، بنشوب العديد من الأزمات، يأتي في مقدمتها بروز صراعات عسكرية بين الفصائل الكردية المسلحة، مما يكرر سيناريو انفصال جنوب السودان الذي لا يزال يمر بحرب أهلية، وحالة من عدم الاستقرار منذ استقلاله في 2011، بل إنه شهد مجاعة وأزمة غذائية، رغم ثروته النفطية، دفعت هذه التخوفات حكماء كردستان السياسيين إلى مطالبة شعبهم برفض الاستفتاء، والبقاء جزءًا من دولة العراق.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها فقط)