جديد تاريخ البشرية.."ثورة أكتوبر الإشتراكية"..
ثورة أكتوبر/تشرين الأول في عام 1917، ثورة "الأيام العشرة التي هزت العام"، هي ثورة تعبر بامتياز عن الروح الروسية الوقادة، على امتداد التاريخ، وعن حقبة هي الأهم في تاريخ روسيا، حين قدمت تجربتها في الاشتراكية. نقول تجربة، لأن العديد من الباحثين والمختصين، وكذلك قراءات بعض الأحزاب الاشتراكية والديمقراطية الثورية والشيوعية لهذه التجربة، أجمعت على أنها قامت بعملية تحول جذري في التاريخ البشري، عبر التاريخ الروسي. وكما هي ملك للروس… هي أيضا ملك للبشرية.
وبعد انهيار التجربة، ثار نقاش تاريخي في أصقاع الأرض كافة، في تسعينات القرن الماضي، ولما يزل بعد. عدنا إلى كتب لينين والبلاشفة في سياق عصرهم، وكتب التيار الإصلاحي في سياق ذات التاريخ، كما جرت فبركة ما سميّ بـ "وصية بليخانوف"، والتي دحضها الموثقون الروس، بأنها مفبركة في معاهد الغرب الأمريكية المختصة بدراسة روسيا.
نقصد بالروح الروسية على امتداد تاريخها، مقومات الصمود والانتصار، ومقومات الذهنية والعقلية الروسية، وأثرها في الفرد الروسي، والصمود في زمن خاطف. كما أننا نشاهد هذه الروح راهنا بقوة، وهي مذهلة تعيد اكتشاف "الدهشة المخبؤة" لدنيا، ونحن في عصرٍ تنعدم فيه الدهشة بالعودة لأطنان ما كتب عن "ثورة الأيام العشرة التي هزت العالم"، والتاريخ الجبار لروسيا. البعض يقرأه قراءة ترتبط بـِ بليخانوف مؤسس التيار الاصلاحي في الماركسية الروسية في "البدايات النظرية"، لكننا أمام التجربة الاشتراكية الروسية نستخلص بأن: "تاريخ البشرية في القرن العشرين، كان سيمضي في دربٍ آخر، لولا هذه الثورة"، فقد قضت على النظام القيصري الاقطاعي شبه الرأسمالي، مسجلةً بداية انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية، من جانب ومن جانب آخر تصاعد الحركات الاشتراكية والعمالية، وحركات التحرر الوطني في جنبات العالم..
تقدمنا نحن في المشرق العربي وفي فلسطين بالذات على قراءة كتب لينين، وكتاب زعيم التيار الإصلاحي (المناشفة) بليخانوف في خمسينيات القرن الماضي، حول "دور الفرد في التاريخ.."، بليخانوف وكتابه بالذات، وبحسب أعداء الاشتراكية، أعداء البلاشفة، هو من أدخل "فايروس الماركسية" إلى روسيا، بل أيضا إلى أماكن عديدة في جنبات هذا العالم، وقام بترجمة "البيان الشيوعي" إلى اللغة الروسية، وأسس في منفاه في جنيف أول منظمة ماركسية روسية بإسم "تحرير العمل"، ثم أسس لاحقا: "اتحاد الاشتراكيين ـــــ الديمقراطيين الروس في الخارج"، فضلاً عن كتبه في الفلسفة وعلم الاجتماع والثقافة التي كانت توزع سرا.
النقاش دار ويدور بين التيار الاصطلاحي (المناشفة)، أي أنه آمن في درب التطور الرأسمالي، مما يناسب الماركسية الأوروبية في البلدان المتطورة في الغرب الأوروبي، وقد تعرف على فلاديمير إيلتيش لينين في العام 1889، وأسس معه جريدة "الشرارة"، وبدأ بالتحضير لعقد المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، معتبرا أنه من السابق لأوانه التحضير للثورة الاشتراكية، برز هذا في مقولته: "إن التاريخ الروسي لم يطحن بعد من الحنطة ذلك الدقيق الذي ستصنع منه بمرور الزمن كعكة الاشتراكية"، عاد إلى روسيا بعد ثورة أكتوبر/تشرين الأول، وتوفى في فنلندا في (مايو/أيار 1918) ودفن في بتروغراد، وقال عنه أحد مريديه: "لقد كان للمسيح يهوذا فقط، أما لدى بليخانوف فعددهم كبير"، قاصداً البلاشفة.
أما لينين فقد علق في العام 1921 بأن المرء لا يمكن أن يصبح شيوعياً واعياً وحقيقياً، إلا بعد دراسة جميع ما كتبه بليخانوف في الفلسفة، لأنه أفضل ما كتب في جميع الأدب العالمي حول الماركسية.
في هذا الجانب، وفيما يخص بلدان العالم، أرغمت ثورة أكتوبر/تشرين الأول الامبراطوريات الإمبريالية على التخلي عن مستعمراتها، وأرغمت السلطات الرأسمالية على تخفيف إستغلال الكادحين. ساندت وساعدت حركات التحرر الوطني في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية. كشفت اتفاق سايكس-بيكو لتقسيم واقتسام البلاد العربية والشرق الأوسط بين الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية. كشفت "وعد بلفور"، "بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين" على أرض الشعب الفلسطيني وحسابه وهو يشكل 90% من السكان، بينما اليهود أقل من عشرة بالمئة 10%، وأعلنت ثورة أكتوبر/تشرين الأول أن "الصهيونية حركة رجعية استعمارية".
بعد تسعينيات القرن العشرين، بيد الدولة الروسية اليوم كمّ هائل من الوثائق ومن الأرشيف الضخم للدولة، يجري نبشه وتمحيص على يد خبراء موثوقين، يأخذون وقتهم في معالجة أرشيف هذا التاريخ ورقةً ورقة، في مهنية رفيعة، بعيداً عن الإيديولوجيا، لإستخلاص العبرة والدروس، علماً أن النهوض الروسي الراهن والمتسارع.. هو بحد ذاته استخلاص الكثير من هذه الدروس..
روسيا بلاد غنية مترامية الأطراف، وهي أكبر بلدان العالم من حيث الجغرافيا (أورو- آسيوية)، يرمز لذلك نسرها برأسين في اتجاهين — شرق وغرب. بمساحة سدس مساحة اليابسة تقريباً. يقطنها حوالي 145 مليون نسمة من مختلف الأديان والأعراق، والثقافات والقوميات. على مدى قرون من التاريخ تعرضت لحروب، منذ ما قبل الغزو المغولي وبعده السويد، بولندا، ولاتفيا، وليتوانيا، وبروسيا الألمانية، وفرنسا نابليون بونابرت، والألمان قبل النازية وهتلر ومعه (حربان عالميتان).
أولاً: في تفشي البيروقيراطية، التي بدأت من داخل الحزب، وفي أجهزة الدولة وهيمنة مواقع الفساد.
ثانياً: غياب معادلة ماركس الشهيرة "الاشتراكية الديمقراطية وديمقراطية الاشتراكية" وهذا كان "الغائب الأكبر" في تجربة الحزب والدولة ومؤسسات المجتمع.. نقابات وثقافات إلخ..
ثالثاً: الجمود الاقتصادي بعد أن استنفذت تجربة إقتصاد الدولة المركزي طاقتها، والبلاد في حالة أزمة فكرية واقتصادية واجتماعية وسياسية.
رابعاً: الأزمة العامة في التجربة السوفيتية إمتدت إلى غياب العلاقات الديمقراطية الاشتراكية بين القوميات والبلدان السوفيتية.
خامساً: عجز مؤسسات الحزب الشيوعي السوفيتي عن تقديم "الحلول الملموسة للواقع الملموس". تراكمت الأزمات والصراعات داخل الحزب إلى تيارات وتكتلات متناقضة (ماركسية، ديمقراطية إجتماعية، ليبرالية سياسية، توترات قومية حادة، إقتصاد السوق، الأسواق تضبط نفسها،…).
هكذا انفجر الحزب والدولة في داخل كل منها، فكان ما كان: انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي، انهيار وتفكك الحزب، انهيار التجربة الاشتراكية السوفييتية.
كما كان لها امتداد من العامل الخارجي، برز جلياً بعد الإنهيار السوفييتي في محاولات تقطيعها إلى ثلاث دول، وقد واصل الغرب الإمبريالي عداءه لروسيا، وللذات الروسية، رغم انهيار التجربة الاشتراكية وتفكك الإتحاد السوفييتي، لخوفه من نهوضها (سباق التسلح، حرب النجوم، الحصار الاقتصادي التكنولوجي، والحروب الأيديولوجية والإعلامية بانتصار الرأسمالية وهزيمة الاشتراكية، وللانفراد الأمريكي بقيادة العالم، كما يشتهي).
لقد أدى اختلال توازن القوى إلى الحرب على يوغسلافيا وتقسيمها، وإلى أحداث البلقان، والحرب على العراق، ثم عبر وكلاء الإرهاب العالمي في سوريا والعراق مجدداً، وليبيا واليمن: الحرب عبر وكلاء كما أسست وبرزت دولة الخلافة (داعش)، ومنظمات القاعدة.
إن جملة غوتة التي كررها لينين كثيراً: "النظرية، رمادية اللون يا صديقي، لكن شجرة الحياة خضراء إلى الأبد". شجرة الحياة الروسية عميقة الجذور، ضاربة في أرضها، خضراء يانعة، وهي خير معبر عن روسيا الراهنة، في نموذجها وروحها في فن الحياة على الطريقة الروسية. فالواقعية الروسية الراهنة، وذهنيتها الجماعية، وتعاقبها في أجيالها، وفي خضم تقدمها العلمي الباهر وخلاصاته الثورية، وفي خضم الحراك الضخم والمأساوي للأفكار في عالم اليوم، بينها وبين نظام مروع ومتوحش يفرض فرضاً بقوة الحديد والنار والمقابر الجماعية، وميديا الأكاذيب والإعلام والحروب بالوكالة، وأزمات ومافيات الرأسمالية المحافظة، والليبرالية الجديدة، والحصار الاقتصادي. يبرز جلياً من جديد البحث الروسي عن "عالم ما بعد حضارة الغرب ولصالح الحضارة الانسانية"، ومعه الروح التواقة للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، الباحثة عن استقرار لهذا العالم في توازن محكم في مواجهة أخطار ومغامرات متوحشة، بل ومواجهة الكوارث المخبوءة مخططاتها في الإدراج، وقد رسمت ملامحها، نحو عالم العنصرية الرأسمالية المتوحشة ذات اللون الواحد والملامح الفاشية.
إن الصعود السريع لروسيا من الرماد والركام، هو مقاربتها من جانب العلم ووظيفة التربية والتعليم، التي أخذت مديات عالية، بدءاً من التشجيع على التفكير والبحث الذاتي، وإلغاء عملية التلقين، والدفع إلى الكشف الخاص عن النشاط الذهني والتفكير الذاتي، والتصويب الذاتي في حال الوقوع بأخطاء، أي تعميق ديناميكية العلم والاختصاص، والتبادل المعرفي المباشر، بعيداً عما نسميه نحن العرب "اليقينيات" الراسخة.
هذه الأضواء الكاشفة الموجزة للقدرات الجماعية الروسية، وإحدى المميزات الهامة حين تتصاعد في المنعطفات الحادة، تتوضح مفاهيم كيف تتكامل السياسة مع الفكر وصناعة البشر والعلماء، فضلاً عن الأدب والإبداع، من (الموجيات) والقنانة وعذابات الريف والاستغلال المدمر. والعمال وفقراء المدن. هي حقل متكامل في الواقع الاجتماعي.
تحية للروح الروسية الناهضة، التي تبني البشر قبل الحجر. للعقلية والذهنية الجماعية في الدفاع عن كل ماهو إنساني، وصولاً إلى صناعة العلم والعلماء في تراكمها نحو الحرية والديمقراطية: التنمية من جديد والعدالة الاجتماعية.