لم تسمح الفرصة لذلك الشاب بقسمات وجهه المتعبة وشاربيه المخطوطين أن يشاهد وجه امرأة غير والدته وأخته، كان يتمنى أن يعجب بذكورته الفتية بعد أن يرى فتاة يعجب بها كما كل المراهقين في عمره، لتكون نظرة أنثى بعينيها السوداوتين المكشوفتين من نقابها "غطاء للرأس أسود"، أخر ما عرفته ذاكرة محمد عن النساء، واللواتي تم تهميشهن بشكل كامل في ذلك المجتمع، متحولين إلى زوجات أو سبايا لمقاتلي التنظيم.
مراسل "سبوتنيك"، وصل إلى البوكمال، وتحدث مع سكانها ليخبروه عن تعامل التنظيم مع المدنيين وكيف غير "داعش" في المكون الاجتماعي، بالإضافة إلى تغيره نمط التعامل في تلك البيئة المحافظة التي عاشت قبل الأزمة السورية حالة من العشائرية وفق العادات والتقاليد، كما باقي المدن والقرى في المنطقة الشرقية.
بداية الطريق
بسيارة دفع رباعي بدأ المشوار لتغطية ما جرى في المدينة إبان خروج "داعش" منها، من دمشق إلى حمص ثم تدمر بعدها، إلى الحدود العراقية السورية، تقطع السيارة الحدود غير المرئية مسافة ٥ كم وصولا إلى الحدود الإدارية للبوكمال، ليستغرق الطريق تسع ساعات في السيارة و١٣ ساعة للقادمين بواسطة الباص.
دخلت السيارة ريف البوكمال، اختلاف كامل ما بينها وبين المدينة، ووجه يحاكي جميع المناطق في سوريا، لكن الاختلاف هنا بأن الريف صحراوي، وكان قد شهد أعنف المعارك على مدى الأسابيع الماضية ليفتح الطريق باتجاه المدينة العمرانية، التي حملت معالم الرفاه لقاطنيها ما قبل الحرب، بيوت كبيرة، محلات تجارية وأسواق، يجوب بها اليوم قوات أبعدت سلطة "داعش" عن من يريد العودة لحياته السابقة.
قوات من الجيش السوري وحلفائه وقوات عراقية تنتشر على الحدود العراقية السورية، هي من طردت "داعش" وأعادت المدينة إلى سيطرة الحكومة السورية.
لا اتصال لا تكنولوجيا
يرفع محمد هاتف أبيه إلى السماء كمن يرفع يديه إلى الله مناجيا أن يخرجه من متاعبه، لكن هذه المرة يرفعها لعل هاتفه يلتقط إشارة يتحدث بها إلى أقربائه يتطمأنهم على حالهم ويطمأن عليهم.
منذ أن استولت "داعش" على المدينة الواقعة في ريف دير الزور الشرقي خرجت الاتصالات عن الخدمة، كما خرج المئات من المدينة خوفا من أن يستبيح مسلحو التنظيم الإرهابي ممتلكاتهم وأعراضهم بحسب ما ذكره من بقي في المدينة متحدثين عن ذويهم.
وذكرت إحدى المنسقات من دائرة جهود الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، ليندا توم، أن عدد النازحين من البوكمال في الأسابيع الأخيرة قدّر بنحو ١٢٠ ألف شخص.
لم يبق في المدينة الواقعة على الضفة الغربية لنهر الفرات سوى أدوات الحرب الحديثة، حيث أنها عادت فقط إلى عهد الخلافة بسلاح مطور غير الذي عهدته الخلافة في السابق.
وتروي أم محمد أننا عدنا لاسم الخلافة فقط، من دون الاستعانة بالتكنولوجيا، لا هواتف، لا تلفزيونات، لا إذاعة، لا أدوات كهربائية ولا أي شيء من صنع "الكفرة"، كما كانوا يسمونها عندما كانوا هنا، وتضيف، "منعونا من أدوات الكفرة وهم يستخدمون سلاح الكفرة ضد الكفرة، هذه هي معادلة الظلم".
بعد أن تمدد التنظيم الإرهابي في عام ٢٠١٤ وسيطر على العديد من المناطق كانت البوكمال ضمن حساباته بسبب موقعها الاستراتيجي، حيث طرد "جبهة النصرة"/ التي تمددت هي في السابق على حساب ما سمي بـ "الجيش الحر" عام ٢٠١٣، بعد أن خرجت المدينة البالغة مساحتها ٦٨٠٠ كم٢ عن سيطرة الحكومة السورية في يوليو/تموز ٢٠١٢، إبان سيطرتهم على مطار حمدان.
تمدد التنظيم الإرهابي وفرض قيودا جديدة على مدنيي المناطق الشرقية، حيث اعتمد نشر فكره العقائدي واستغلاله للموارد النفطية ووصل نقاط سيطرته في سوريا مع مناطقه في العراق، ليكون التعليم والصحة والغذاء وكل شيء بيده "الحاكم بأمر الله"، على حد قول أم محمد.
وتتابع أم محمد، "التنظيم لم يترك شيئا إلا وكان له اليد الأعلى بالتزامن مع فرض سلطته المطلقة على المرأة فكانت مهمشة، بائسة، ملتحفة بالسواد من رأسها وحتى أخمص قدميها، متذرعين بضوابط دينية كما وصفتها، لا كلمة تعلو على كلمة عنصر منهم، حتى الرجال عليهم أن يطيعوا من نال قرارهم".
وبحسب سكان المدينة فإن ممارسات "داعش" والقسوة التي فرضوها، تحت إطار الضوابط الشرعية أخافت الجميع، لم يعد هنالك من يخالف القرارات التي كانت تصدر عن التنظيم والتي ساهمت في بسط ما يريده، فمنع الاحتفال في الأعراس التي كانت من العادات القديمة لسكان المنطقة ومنع الاختلاط بها، علما أن جميع الحاضرين يكونوا من المقربين ويتبعون لذات العشيرة أو القبيلة.
كما وأمر التنظيم من تزويج النساء لأفراد من خارج العشيرة الأمر، الذي عبرت عنه أم محمد بأنه يخالف العادات السائدة في مجتمعهم، حيث لا يمكن أن تتزوج الفتاة من خارج قبيلتها أو عشيرتها، لاسيما أن المنطقة تضم سكانا يتبعون معظمهم لعشيرة "أبو كمال" التابعة لقبيلة "العقيدات" التي استوطنت وادي الفرات على مدى سنوات.
اتصال هاتفي ينهي الحكاية
مشاهد إنسانية تركت في المدينة شبه المدمرة، حيث أن الصحراء نالت الأجر الأكبر من المعارك، فيما بقت المدينة تحت اشتباكات أودت بمبانيها إلى دمار جزئي قدر بحسب المشاهدات إلى ٥٠٪.
حاول مراسل "سبوتنيك" استعراض بعض من مشاهداته ليرسم ختام رحلته نحو مدينة البوكمال باتصال هاتفي أجراه حيث التقط هاتفه إشارة الاتصال، مع أحد أبناء المدينة العامل في الجيش السوري والموجود في غوطة دمشق الشرقية، يخبره "اطمئن أهلك لازالوا على قيد الحياة"، تاركا الأيام أن تخبر أهله أنه لا يزال على قيد الحياة رغم ضراوة المعارك.