سبوتنيك. إن الحرب التي تعيشها البلاد منذ آذار/ مارس العام 2011، خلقت شرخاً مجتمعياً كبيراً في صميم الحياة والكيان السوريين، أزمة تغيرت معها قناعات وآراء، وانقلبت فيها مفاهيم كانت فيما مضى من المسلّمات. لتظهر الهوية الوطنية كأحد أهم المواضيع التي أفرزتها الأزمة السورية، فمن مطالب بأسلمة النظام السياسي وحتى المجتمعي، إلى المنادي بالأمة السورية دون سواها (سوريا التاريخية والعراق)، ومن القائل بالانتماء العروبي العميق لسوريا، إلى المطالب بحصرها ضمن حدودها الحالية تحت عنوان سوريا أولاً.
(بناء الهوية الوطنية السورية) عنوان نقاش طاولة مستديرة عقدت قبل أمس في العاصمة السورية دمشق، بدعوة من الأكاديمية السورية الدولية، تحدث فيه الوزير والسفير السابق د. مهدي دخل الله، والأستاذ حافظ يعقوب العميد في الحزب السوري القومي الاجتماعي في الشام، بالإضافة للأكاديمي والباحث الدكتور حسام عبد الرحمن.
"سبوتنيك" التقت المتحاورين، وقدمت تساؤلاتها في ظل ما أفرزه النقاش من أفكار وتساؤلات.
الدكتور مهدي دخل الله الوزير والسفير السابق، ركّز في مداخلته على الهوية العربية للدولة السورية، وعلى عمق الانتماء العروبي للشعب السوري.
سألناه: ما هي أسباب الجدل والنقاش الحاصل اليوم حول مفهوم الهوية السورية، فأجاب:
"خلال الأزمات يطرح الناس عادة مسائل تكون بديهية قبل حدوثها مثل مسألة الهوية، كالقلّة الذين يشككون اليوم بالهوية العربية لسوريا، بكل تأكيد هذه المشكلة ظهرت بسبب الأزمة، ومن يدقق مليا يجد أن الأزمة ظهرت بالأساس بسبب تمسك سوريا بهويتها العروبية، ولو أن سوريا قبلت العروض الأمريكية بالتخلي عن القضية الفلسطينية لما كانت هناك مشكلة بالنسبة للشعب السوري ولما تساءل أبدا عن هويته".
طلبنا من الدكتور دخل الله أن يعطينا تصوّره ورؤيته لمستقبل الهوية السورية بعد الحرب، فقال:
"أعتقد أن الخروج من هذه الأزمة منتصرين بالتعاون مع الحلفاء — لأن المسألة تتعلّق بالنظام الدولي الجديد — سوف يجيب عن كل أسئلة السوريين، وعلى أن الهوية الاستقلالية وليست هوية التبعية للولايات المتحدة الأمريكية هي أهم هوية في هذا العصر، الاستقلالية التي تبنى على أساس أننا عرب وأننا أرض العرب وندافع عن القضية المركزية للعرب، وهي القضية الفلسطينية".
ومن منطلق كونه رئيس تحرير صحيفة رسمية ووزير إعلام أسبق سألنا الدكتور مهدي دخل الله عن رؤيته لصيغة وطنية إعلامية تكون مقبولة من الجميع. فأجابنا قائلاً:
"المسألة الأساسية في هذا الموضوع هي حرية التعبير، إذ إن الدستور السوري بخلاف غيره من الدساتير يصف حرية التعبير بأنها مقدسة، وكلمة مقدسة تعني أنها من حقوق الإنسان قبل أن تكون من حقوق المواطنة".
هنا قاطعنا الدكتور دخل الله متسائلين: هل حرية التعبير هذه حقيقة واقعة، وهل يمارسها المواطن السوري كحق إنساني؟ يجيب د. دخل الله:
"هذه الحرية غير مفعلّة في كل دول العالم وليس فقط في سوريا، (يضرب لنا مثالا المعارضين في أمريكا وعدم تمكنهم من الحديث والظهور عبر وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى)، هذه المثالية مطلوب التوجه نحوها لكننا لن نصل إليها أبداً". ويضيف:
الأستاذ حافظ يعقوب العميد في الحزب السوري القومي الاجتماعي في الشام، حدد في مداخلته خطّة بناء الهوية الوطنية التي جاءت على أساس النقاط التالية:
- تداعي المفكرين والمهتمين لإجراء بحث علمي في كيفية نشوء الأمم.
- إطلاق حوار فكري حول سؤال… من نحن؟!
- العمل الجاد على تجسيد ثقافة الوحدة الاجتماعية بين السوريين.
- إصدار القوانين والتشريعات التي تكفل وتحمي الوحدة الاجتماعية للسوريين.
- التساوي في الحقوق والواجبات والمصير.
سألنا الأستاذ يعقوب عن مساهمة الحزب السوري القومي الاجتماعي أثناء الأزمة في سبيل تعريف السوريين بهويتهم، فقال:
"نحن في الحزب لدينا نظرة للمجتمع تقوم على الاشتراك في دورة حياة واحدة على أرض الوطن السوري، انطلاقاً من هذا الأمر عملنا على توعية السوريين بحقيقة هويتهم السورية، وضرورة أن يبقوا متوحدين جنباً إلى جنب في وجه الهجمة التي تريد تقسيمهم شيعاً وطوائف وإثنيات، في نفس الوقت وبالتوازي مع العمل الفكري التوعوي، كنا نقاتل وما زلنا مع الجيش العربي السوري للدفاع عن سوريا، لأنه إذا زالت سوريا فماذا يبقى من الهوية السورية".
يؤكد الأستاذ يعقوب على تكامل العمل ما بين الفكر الاجتماعي التوعوي وبين العمل الميداني في الدفاع عن التراب السوري، ويضيف بأنه يجب نشر فكرة الوحدة الاجتماعية وإقناع السوريين بأنهم أبناء مجتمع واحد لأن هذه الحقيقة فرضها التاريخ، والهوية مرتبطة أساساً بالأرض ومن دون أرض لا وجود للهوية.
كيفية بناء هوية ثابته لا تتغير بتغير الظروف أو الأنظمة والحكومات كان سؤالنا للأستاذ يعقوب، فأجاب:
"إذا كنا عقلانيين — والعقل عند القوميين الاجتماعيين هو الشرع الأعلى- لا نستطيع القول أن هناك هوية لا تتغير، زعيمنا المفكر السوري العظيم أنطون سعاده سأل نفسه هذا السؤال: (هل يمكن أن تتغير حقائق القوميات؟ فقال من يدري.. ربما)، من هنا نقول بضرورة وضع تعريف علمي للأمة. وعندما نسعى إلى إيجاد مثل هذا التعريف، نعود ونسأل أنفسنا: من نحن؟! عندها نستطيع أن نقول أننا وحّدنا الهوية إلى آجال غير مسماة، ويتفق من يعيش في هذه الأرض التي اسمها سوريا على تحديد هويتهم".
سألنا الدكتور عبد الرحمن: في ظل الانقسام العميق في النسيج المجتمعي السوري، كيف نستطيع بناء الهوية الوطنية من وجهة النظر الأكاديمية العلمية؟ فأجاب:
"يتوجب بناء الهوية على أساس الوطنية الجمهورية، أي الوطنية القائمة على الحب العقلاني الرشيد، وبشكل أوضح الوطنية القائمة على حب الوطن على أساس المصلحة. إذاً، الهوية الوطنية السورية هي الهوية التي تجمع السوريين على أساس المواطنة الكاملة والمصلحة".
يقول الدكتور عبد الرحمن أن هناك نواة صلبة للهوية السورية منذ العصور الآرامية والكنعانية والفينيقية، وصولاً إلى مشروع الحداثة والتطوير اليوم، ورأس الهرم لهذا المشروع هو الشعب السوري وسوريا الكيان والدولة.
سبوتنيك سألت الدكتور عبد الرحمن عن مدى الحاجة إلى قوانين وتشريعات جديدة لمواكبة عملية بناء الهوية الوطنية السورية على أسس راسخة، فأجاب:
"الهوية الوطنية تعني وقوف الدولة على مسافة واحدة من مواطنيها، لن أدخل الآن في تفاصيل المادتين المتناقضتين (3) و(33) من الدستور السوري الحالي، إذ يجب أن تقف الدولة على مسافة واحدة من جميع مواطنيها حتى لا تنتج مواطنة منقوصة. الدستور هو العقد الوطني الاجتماعي بين السوريين، ويجب إعادة بناء هذا العقد للوصول إلى نقطة توازن بين المواطنين والدولة وبين المواطنين أنفسهم".
إلى أن تضع الحرب أوزارها ويحدد المنتصر خياراته وسياساته، ستتوالى الاجتماعات والندوات للوصول إلى صيغه توافقية لهذا الموضوع —الاشكالي حاليا- والمهم في بناء أي دولة تعيش ظروفاً عادية، فكيف ببلد مزّقت الحرب سلامه المجتمعي ودمّرت بنيته التحتية بصورة كبيرة.