بيروت- سبوتنيك. الحفل الموسيقي، الذي تأخّر بضعة أسابيع لأسباب لوجستية، هو واحد من أمسيتين، سيستضيف المركز الثقافي الروسي ثانيها مساء اليوم، وذلك في سياق حضور متجدّد لزياد الرحباني، بعد غياب استمر نحو ثلاثة أعوام عن جمهوره، قرّر أن ينهيه مؤخراً، وكما هي عادته، بسلسلة حفلات، كان أوّلها ضمن مهرجانات بيت الدين في تموز/يوليو الماضي بأمسيتين، تلتهما أخريان في مسرح "أريسكو بالاس" البيروتي، وعزف أسبوعي في حانة "بلو نوت" الصامدة أمام المتغيّرات التي ضربت شارع الحمراء المتميّز غربي بيروت خلال السنوات العشر الماضية.
هذا الحضور المتجدّد لزياد الرحباني، الأبن الأكبر لأيقونة الموسيقى اللبنانية فيروز، من المتوقع أن يستمر خلال الفترة المقبلة، عبر أمسيات متنقلة، سيكون الجنوب اللبناني، وتحديداً قلعة شقيف، محطته التالية في السابع من أيلول/سبتمبر المقبل، على أن تلي ذلك أمسيات أخرى في مدينتي صيدا وصور، ووسط حديث عن إمكانية إحياء حفلات أخرى في سوريا ومصر.
عودة زياد الرحباني إلى المشهد الفني، توازي عودته إلى الحاضنة اليسارية، بعد جدل أثارته مواقفه السياسية، التي بدت بنظر كثيرين في بعض الأحيان مشوّشة، وأقرب إلى "حزب الله" منه إلى "الحزب الشيوعي اللبناني" الذي ارتبط به منذ تفجّر عبقريته الموسيقية والمسرحية في أواسط السبعينات من القرن المنصرم.
بهذا المعنى، بدت أمسية المركز الثقافي الروسي، في كثير من تفاصيلها، معبّرة عن الثوابت السياسية التي حافظ زياد الرحباني عليها، راسماً خطاً واضحاً بين "حزب الله" كقوّة مقاومة ضد إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، وبين الفكر الشيوعي، بكل أبعاده العلمانية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما تبدّى على سبيل المثال في آخر مقابلة تلفزيونية أجراها مع قناة "الميادين".
على هذا الأساس، حرص زياد الرحباني على أن يستهل أمسيته في المركز الثقافي الروسي، بعد الموسيقى الافتتاحية "لولا فسحة الأمل"، بنصٍ قرأته كل من الصحافية صباح أيوب والممثل طارق تميم، وسبق أن قُدّم ضمن برنامج "العقل زينة" في الثمانينات، عبر أثير إذاعة "صوت الشعب" التابعة لـ"الحزب الشيوعي اللبناني".
هذا النص الطويل، الذي استغرقت تلاوته حوالي ربع الساعة، ضمّنه زياد الرحباني تعريفات بعدد من المصطلحات التي "يدور حولها الكثير من اللغط"، من قبيل "موقف الشيوعيين من الفقر"، فهم "يريدون أن يكون هناك فندق شيراتون"، ولكن مع إضافة "للجميع"، وهي الكلمة التي تتعمّد الدعاية الأميركية حذفها؛ ومن ثمّ "الرأسمالية" باعتبارها "مرحلة ألعَن من البرجوازية"، لأن "الرأسمالية حين تستشرس وتكشّر عن أنيابها فإنّ البرجوازية في هذه اللحظة من التاريخ تفقر، وتقف في صف العمّال"؛ وبعدها "التقدمية" باعتبارها "مرحلة تسبق الشيوعية، التي لم تتحقق بعد، ولكنها حلم التقدّميين، الذين يبدأون أولاً بالاشتراكية"؛ وصولاً إلى "العلاقة بين الشيوعية والدين"، فهي "ليست ضد الله، ولكنها ضد أن يكون الله وجنتهـ للفقراء فقط لتعويضهم عن تعاسة الأرض".
وفي نص أحدث، سجّل زياد الرحباني موقفاً نقدياً حاداً، بأسلوبه الساخر، تجاه "المنظمات غير الحكومية" أو ما يسمّى بـ"المجتمع المدني"، متسائلاً عن هذه "الشيفرة" التي تجمع هؤلاء دوماً في حديقة سمير قصير، في وسط بيروت، ومكملاً تساؤلاته: "إذا كان هؤلاء ينتمون إلى المجتمع المدني، فإلى أي مجتمع ننتمي نحن الذين لا نشارك في اجتماعاتهم… إلى المجتمع غير المدني؟ وما تعريف المجتمع غير المدني، أهو المجتمع العسكري أو الديني؟"، ليخلص إلى القول "إذا كان عكس المجتمع المدني هو المجتمع الديني، فيجب أن يتم فوراً اعتماد التالي: المجتمع المدني زائد المجتمع الديني، يساويان، أو بالأحرى دواءهما المجتمع العسكري، وبذلك تصبح المجتمعات الثلاث مجتمعاً واحداً عسكرياً".
البرنامج الموسيقي للأمسية بدا منوّعاً، وأثار تفاعلاً مباشرة بين الجمهور وبين زياد الرحباني والفرقة الموسيقية التي قادها هاني السبليني، الذي كان حاضراً في كافة الحفلات السابقة.
ومن "ريبرتوار" زياد الرحباني، قدّمت الفرقة الموسيقية والكورس أغانٍ قديمة مثل "يا بنت المعاون (التي أداها الفنان الراحل جوزيف صقر في مسرحية "سهرية" — 1973)، و"طلّي اضحكي له يا صبية" (من مسرحية "نزل السرور" — 1974)، و"عايشة وحدها بلاك" (أدّاها جوزيف صقر في مسرحية "بالنسبة لكبرا شو" — 1978)، و"بما انو" و"تلفن عياش" (أدّاهما جوزيف صقر أيضاً في ألبوم "بما إنو" — 1996)، و"شو هالإيام إللي وصلنا لها (من ألبوم "أنا مش كافر" — 1985)، واغانٍ احدث من قبيل "Un verre chez nous" (أدّتها سلمى مصفي باللغة الفرنسية الملبننة في ألبوم "مونودوز" — 2006)، و"سلّملي عليه" (أدتها السيدة فيروز في ألبوم "مش كاين هيك تكون" — 1999)، و"أمّن لي بيت" (أدتها الفنانة التونسية لطيفة في ألبوم "معلومات أكيدة" — 2005).
ومن ضمن المقطوعات الموسيقية الرحباني، قدّمت الفرقة "لولا فسحة الأمل" (1993)، ومقدمة مسرحية "ميس الريم"، و"أسعد الله مساءكم" (من ألبوم "مونودوز" — 2000).
وكما درجت العادة، في الكثير من حفلاته، قدّم زياد الرحباني في أمسية المركز الثقافي الروسي بعض الأغاني من الموسيقى العالمية، بنكهة "الجاز"، مثل اغنية "Les Feuilles mortes" بنسختيها الفرنسية والعربية (الأخيرة أدّتها السيدة فيروز في البوم "ولا كيف")، إلى جانب أغنيات لاتينية مثل "So Danso Samba" للموسيقي البرازيلي أنطونيو كارلوس جوبيم "Agua De Beber"، والتي مزجت فيها الفنانة نعيمة يزبك الغناء بالرقص اللاتيني، إلى جانب الرقص الشرقي على أنغام أغنية "بعتّلك يا حبيب الروح" (من مسرحية "نزل السرور").
كذلك أدى كلّ من ربيع زهر وبرجيس صليبا ورأفت ابو حمدان مقاطع من "العتابا" (نوع من الشعر اللبناني المغنى يتضمّن لعباً على الكلام في القافية)، بعضها قديم، والبعض الآخر جديد، ومن بينها واحداً كتب زياد الرحباني كلماته، في مطلع التسعينات، وبدا موجّهاً إلى اليساريين الذين ضربهم "اليأس" أو "التخاذل" بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتقول كلماته "بموسكو كتار ابطال الاولمبيك/ ودغري انسحبت قال دبّ الألم بيك/ قرّب لهون وامضي لي بقلم (بيك) / انك جبان جرّصت البلاد".
كما غمز الرحباني من بوابة "البيريسترويكا" في عهد الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، الذي خصّه في أحد نصوصه المقروءة بالقول "هل تعتقد أن غورباتشيف لم يكن ليتمنى وجود الله، بدلاً من بذل كل هذا العذاب لتحقيق العدالة لكل الناس، وجعلهم متساوين، ويصبحون كلهم برجوازيين؟ ألم يكن يتمنى عوضاً عن كل البرامج الاقتصادية والخطط الخمسية والحروب النووية، أن يأتي يوم يصلّي فيه ليلاً، طالباً من الله أن يقضي على الأميركيين؟".
أخيراً، لم يشأ زياد الرحباني أن يختم الحفل، الذي استمر قرابة الساعتين، من دون أن يصوّب "سلاح" موسيقاه بوجه السياسات الأميركية، فقدّمت الفرقة الموسيقية والكورس اغنية "امريكا مين"، التي كُتبت باللهجة المصرية، وتحاكي في نفَسِها أغاني الشيخ إمام وقصائد أحمد فؤاد نجم، ومن بعض كلماتها: "أمريكا مين… شياطينهم، وعرب الثانيين… ثعابينهم، قولوا للباقيين… بأجهلهم/ وده مجلس أمن… حاكمهم، من عشرين قرن… ونيّفهم، واصحاب الشأن… ناطرينهم/ والناتو A… أمريكانو، متشبّث B… باسنانه، اساطيلهم С.. سيّانه، وD (دي) على ديني وهوايَ"، مع العلم بأنّ هذه الأغنية قدّمت للمرة الأولى ضمن مهرجانات بيت الدين خلال الصيف الحالي، وقد أدّاها المغني والموسيقي في فرقة "اسكندريلا" المصرية حازم شاهين.