وبطبيعة الحال فإن القادة والعسكريين عامة يتطلعون إلى الهجوم الكاسح. بيد أن الحقائق تكشف أن حتى الجيوش القوية اضطرت إلى التراجع أمام العدو المتفوق أو تقهقرت بغية إيقاع العدو في الفخ.
ولعل أبرز أمثال التقهقر البارع، تراجع الجيش الروسي أمام جيش نابليون في عام 1812 وتقهقر الجيش الروسي السوفيتي أمام جحافل الغزاة في عام 1941.
حيلة كوتوزوف
عندما غزا جيش نابليون روسيا في عام 1812 بدأ الجيش الروسي يتقهقر متجنبا الصدام مع الغزاة المتفوقين. إلا أن تراجع الجيش الروسي أمام جيش نابليون لم يكن فرارا بل كان تراجعا منظما يهدف إلى الحفاظ على سلامة الجيش وأفراده.
ومن أجل ذلك قرر قائد الجيش الروسي، كوتوزوف، ترك مدينة موسكو التي لم تكن عاصمة روسيا حينئذ، لنابليون. وكانت تلك مبادرة بارعة وماكرة أوقعت نابليون في نهاية المطاف في الفخ.
وانتظر نابليون بعد دخول موسكو، أن تعلن روسيا استسلامها أو توقع اتفاقية سلام ترضي الغزاة. غير أنه لم يكسب شيئا خلال وجوده في موسكو، بل خسر كل شيء، فبينما فقد جيش نابليون مقدراته القتالية منهمكا في نهب موسكو التي شب فيها الحريق الهائل، عزز الجيش الروسي الذي لجأ إلى مكان آمن، قدراته ومهاراته القتالية.
وهكذا أوقع الجيش الروسي جيش نابليون في الفخ المشتعل. وطالما تردد نابليون في الخروج من الفخ حائرا في أمره ولكنه اضطر في النهاية للخروج من موسكو. ولم يسمح الجيش الروسي له أن يتوجه إلى الجنوب الروسي غير المنهوب أو إلى العاصمة الروسية بطرسبورغ، فاضطر نابليون للهروب من روسيا على نفس الطريق الذي سار عليه إلى موسكو والذي أصبح مدمرا.
إذن، لا نبالغ إذا قلنا إن تراجع الجيش الروسي أدى إلى حسم الحرب لصالح روسيا.
هتلر يقع في نفس الحفرة
ووقعت قوات النظام الألماني النازي في نفس الحفرة حين غزت روسيا وغيرها من الجمهوريات السوفيتية المتحدة في عام 1941، مع الفارق بأن الغزاة لم يتمكنوا هذه المرة من فتح موسكو.
ولم يتوقع مخططو الحرب في برلين أن يتمكن الجيش الروسي من التراجع أمام جحافل الغزاة، آخذا معه الكثير من المنشآت الاقتصادية والصناعية الموجودة في شطر روسيا الأوروبي.
ولم يعمل مخططو الحرب "الخاطفة" على روسيا السوفيتية حسابا لإمكانية جلاء المنشآت الصناعية قبل أن تصلها دبابات الجيش الألماني. وتمكن مجلس الجلاء التابع لحكومة الاتحاد السوفيتي من نقل 1500 مصنع كبير بالإضافة إلى آلاف المصانع الصغيرة، إلى مناطق لم تحتلها القوات الألمانية، في فترة وجيزة جدا، محققا بذلك انتصارا كبيرا يرقى إلى مستوى الانتصارات التي أحرزها الشعب الروسي وغيره من شعوب الاتحاد السوفيتي في ساحة القتال.
ودحر جيش الاتحاد السوفيتي جحافل النظام الألماني النازي بفضل الأسلحة التي حصل عليها من المصانع التي نُقلت من مناطق زحفت عليها جحافل الغزاة.