ورث أبو بشير المهنة عن والده، وأمضى فيها حوالي خمسين عاماً، تفاوت خلالها الإقبال على شراء القبقاب من سوق اختص بصناعته، أُطلق عليه فيما مضى (سوق القباقبية) قبل أن تتحول محلاته إلى مهن أخرى عبر الزمن.
القبقاب، الحذاء الشعبي الأول في دمشق، يرتبط في الذاكرة العربية بشخصية (غوار الطوشة) التي انتعلته ضمن سلسلة درامية جذبت المشاهدين العرب سبعينيات القرن الماضي بشكل منقطع النظير، وقام بأدائها الفنان السوري العالمي دريد لحام.
وتدور أحداث السلسلة، التي تحاكي (لوريل وهاردي) في الغرب، حول مقالب كوميدية يفبركها (الطوشة) ضد صديقه ومنافسه اللدود (حسني البورظان) التي قدمها الفنان العظيم الراحل نهاد قلعي.
وإلى جانب لحام وقلعي، شارك بالسلسلة نجوم سوريا التاريخيين كرفيق سبيعي (أبو صياح)، وياسين بقوش (ياسينو) الذي قتلته العصابات الإرهابية بطريقة بشعة غرب دمشق، والراحلين ناجي جبر (أبو عنتر) والفنانة نجاح حفيظ (فطوم حيص بيص) وآخرين..
مهنة غير مربحة
يشرح صانع القباقيب أبو بشير في حديثه لـ "سبوتنيك"عن نوعية الخشب المطلوبة للقبقاب، إذ يفضل أن تكون من شجر الصفصاف الموجود في منطقة وادي بردى، بسبب قربه من الماء بالتالي قدرته على التحمل إضافة إلى خشب الجوز والحور والشوح.
يضيف أبو بشير: كانت "المناشر" الخاصة بتصنيعه يدوية في السوق نفسه، لكنها أُغلقت وتحولت لمحلات أخرى، والسبب يتعلق بالتطور الحاصل في معظم مجالات الحياة وتغير ظروف السكن والمعيشة، كلها أثرت على شعبية القبقاب وقللت من إمكانية استخدامه، حتى أنه اليوم يكاد يختفي، في ما مضى كنا نعمل لتلبية احتياجات السوق المحلية وأسواق الدول المجاورة لكن الأمر اختلف اليوم إذ تراجع عدد العاملين في صناعة القباقيب إلى درجة كبيرة، فهي لم تعد مربحة، ولم تعد مغرية لأبناء هذا الجيل الذي اتجه نحو مهن أخرى تكسبه لقمة العيش.
ويشير أبو بشير إلى أن البيوت العربية تراجعت على حساب السكن الطابقي، ولأن القبقاب يصدر أصواتاً عالية استعاض الناس عنه بأحذية ذات أرضية لينة لا تصدر أصواتاً تزعج الجيران، كما أن حمامات السوق التي كانت أحد المستخدمين الرئيسين للقباقيب تناقص عددها هي أيضاً، ولم تعد تستقبل تلك الأعداد الكبيرة من الناس. مشيراً إلى أنه بات يوضع في السنوات الأخيرة قطعة بلاستيك أسفل القبقاب لتخفض من صوته لاسيما أنه مريح أكثر من الأحذية المستخدمة في المنازل، والتي لا تغني عن استخدام القبقاب. كما يوصف للأشخاص الذين يعانون من أكزيما وحساسية في القدمين أو مرضى السكري والضغط الذين يفضلون ارتداء أحذية باردة.
حذاء تاريخي مميز
يؤكد أبو بشير أن القبقاب كان حذاءاً مميزاً لفترات طويلة، ويعتبر قبقاب شجرة الدر من أشهر الأحذية تاريخياً، فقبقابها الذي كانت نهاية "عز الدين أيبك" عليه والذي جعلها أول امرأة حكمت مصر في العصر المملوكي، لم يحمها من ضربات القباقيب فيما بعد إذ تشير الكثير من الروايات إلى أن شجرة الدر قتلت بالقبقاب على يد "أم علي" زوجة عز الدين وبعض الخدم.
هذه الحكاية وغيرها جعلت القبقاب مضرباً لكثير من الأمثال الشعبية الدمشقية منها "لف السير على القبقاب صاروا الأعداء حباب" وهو مثلٌ يضرب حين يتصالح أشخاص متخاصمون، والسير هو القشط الذي يغلف الجسم الخشبي للقبقاب، ويقول مثل دمشقي آخر "الجار يلي بيقروش بالقبقاب بيخانق جاره"، و"ريح مداسك بيرتاح راسك" و"يلي ما لو قبقاب ما لو عيد" إشارة إلى ضرورة شراء قبقاب يتماشى مع المناسبة.
تراث وذكريات
لم يعد القبقاب حذاءاً شعبياً، لكنه لا يزال مستخدماً في بعض البيوت الدمشقية في الحمامات، وفي حمامات الأسواق في حارات دمشق القديمة، وبعض المقاهي الشعبية. ويلفت أبو بشير إلى أن البعض يشتري القبقاب للذكرى في حين أن أنواعاً أخرى من القباقيب تستخدم للزينة وتوضع على الرفوف والطاولات أو تعلق على الجدران وفي السيارات وهي تتميز بصغر حجمها ورسومها التراثية، ويمكن للجميع اقتناءها على اعتبار أن سعرها رخيص ومناسب.
وإذا كنا اليوم لا نرى القبقاب إلا في مسلسلات البيئة الشامية على اعتباره مكملاً لصورة الحياة في تلك الفترة، وفي بعض المحلات والأسواق القديمة، والأماكن الأثرية مثل بيت العظم والتكية السليمانية في دمشق، يبقى لصوته ذكريات وحكايا كان القبقاب عنصراً رئيسياً فيها.