وتوسعت دائرة الحكايات هذه المرة، وامتدت لتشمل قصص كان المعتدي فيها أحد أفراد العائلة أو صديق أو مدير أو زميل بالعمل، أو حتى غرباء لا تجمعهم بالفتاة أي صلة.
لكن لعل أبرز ما ميز هذه الموجة من الحكي، هو إصرار العديد من النساء على فتح جروح حوادث وقعت منذ سنوات، والتخلص من آثار صدماتها عبر مواجهة المعتدين بأفعالهم، وإعلان أسمائهم على الملأ، بالإضافة إلى اتخاذ خطوات قانونية بحق المتهمين بالاعتداء، وتحرك مؤسسات حكومية مثل المجلس القومي للمرأة والنيابة العامة لصالح النساء المعتدى عليهن، وإجراء تعديل قانوني يحفظ هوية الفتيات عند الإبلاغ.
الحديث من أجل دوائر آمنة
ثلاث سنوات مرت على هذه الحادثة، ولا تزال مريم تتذكرها، إذ تقول "كنت خائفة بشدة، تركت هذه الفضائية بعد الحادث بشهور، كان يتملكني الرعب كلما رأيت هذا الشخص، خاصة وأنني كنت أثق في مديري حينما قال لي إنه سيحقق في الموضوع، ولم يفعل ما منعني من اتخاذ أي خطوات قانونية أخرى، لكن مع الوقت لم أتحمل هذا الشعور بالخوف، تركت العمل وانتقلت إلى مكان جديد، ومنذ ذلك الحين وأنا لا أتحدث عن الموضوع، ومؤخرا بعد انتشار موجة الحكي الأخيرة، شاركت القصة مع بعض الصديقات، ووجدت أنهن يعرفن فتيات أخريات تعرضن للتحرش من الشخص ذاته".
تتابع مريم "شعرت بالغضب لأنني لم أصعّد الموضوع في حينه. كان من الممكن إيقاف هذا الشخص، لكنني شعرت بصدمة وخفت من الحديث، وخاصة أنه كان هناك مشروعا للارتباط بيني وبين هذا الشخص".
وأردفت "اعتقد أن المختلف هذه المرة هو حديث الفتيات لبعضهن البعض، خاصة في الدوائر الواحدة، ربما يكون هناك شخص واحد يعتدي على العديد من الفتيات ولا نعرف ذلك لأن أغلبنا يخاف من الكلام، هذا الخوف يجب أن يتوقف".
حكي الحوادث عن التحرش ومحاولات الاعتداء من الفتيات، وتكرار ذكر أسماء بعينها من أكثر من فتاة، جعل بعض النساء يكتبن هذه الأسماء في قوائم يتم تداولها وتمريرها بينهن للتحذير من هؤلاء الأشخاص.
وهي الفكرة التي تراها هبة مفيدة لمساعدة النساء على تأمين دوائرهن الاجتماعية، حيث تقول إن "فائدة الحديث عبر مواقع التواصل الاجتماعي هي جعلنا نحن الفتيات نعرف الأشخاص المتحرشين في دوائرنا، ونعرف عن تجارب بعضنا البعض، لنصبح أكثر حذرا، وأغلبنا بدأ في مقاطعة المتحرشين وبالتالي حماية الأصدقاء لأصدقائهم المتحرشين على حساب الضحايا تصبح أقل بكثير".
في السياق أيضا، تحكي أسماء مصطفى، وهي تعمل في مجال التسويق الإلكتروني، أن موجة الحكي هذه المرة أعادت لذاكرتها تفاصيل حادث اعتداء وقع منذ سنوات، حيث تقول "عادة لا أتفاعل مع هذه الموجات، لكن تلك المرة مختلفة، لا أعرف تحديدا ماذا حدث سبب لي نوبة من الألم مع تكرار قراءة الشهادات عن التحرش، في أحد أيام استيقظت وأنا أتذكر بالكامل تفاصيل اعتداء سابق تعرضت له، كنت قد نسيته تماما ولم أحك عنه لأي شخص، لكن الحديث العام أثر علي وجعلني أتذكره".
أما فكرة القوائم بأسماء المتحرشين، فترفضها أسماء، حيث توضح "بشكل شخصي أعرف بعض الأصدقاء الذين ذكرت أسمائهم في هذه القوائم، وبعضهم لا يمكن أن نقول عنهم متحرشين، ومن المواقف التي تحكيها الفتيات، فهناك فرق بين شخص متحرش وشخص له سلوك اجتماعي غريب أو على علاقة بنساء كثيرات في الوقت نفسه، التحرش جريمة ويجب أن يعامل كجريمة لكن هناك بعض الأنماط الأخرى من السلوك تكون غريبة وغير مريحة لكنها لا تعد تحرشا".
وتتابع "لم تعجبن فكرة القوائم، خاصة أنني لا أعرف ماذا أفعل بهذه القوائم، هل نفصلهم من العمل أو نقطع علاقتنا بهم أم ماذا".
وتلفت أيضا إلى ضرورة "الإشارة إلى أن النساء باتت تتحدث على مواقع التواصل الاجتماعي لأن هناك ثغرات قانونية لا تساعد النساء على الحصول على حقوقهن، فبالتالي الناس تتحدث على مواقع التواصل الاجتماعي كبديل للقانون، وطالما اتخذنا هذه المواقع كبديل للقانون فيجب أن نتعامل معها بجدية، لأن التحرش جريمة، وعلينا أن ندرك هذا ولا نخلط بينه وبين سلوكيات أخرى غير مريحة".
ليست بديلا للقانون
أربع فتيات ممن ذكرت حكايتهن على الأقل، تقدمن بشكوى للمجلس القومي للمرأة [مؤسسة حكومية] والذي بدوره ساعد الفتيات على تقديم بلاغات للنيابة العامة ضد الشخص المتهم بالاعتداء، والتي قررت حبسه لمدة 15 يوما على ذمة التحقيقات.
الحساب ذاته، عاد بعد نحو شهر لينشر تفاصيل جديدة لواقعة اغتصاب جماعي وقعت داخل أحد فنادق القاهرة الشهيرة، عام 2014، حين استدرج 6 أشخاص فتاة إلى إحدى الغرف، بعد أن وضعوا لها مخدرا في مشروبها وقاموا باغتصابها وتصويرها، وتهديدها بعد ذلك بالفيديو المصور، وهي الحادثة التي أعلنت النيابة العامة نهاية الأسبوع الماضي أنها بدأت تحقيقا رسميا فيها بعد تقدم الفتاة ببلاغ عن طريق المجلس القومي للمرأة.
الحادثتان المنشورتان عبر حساب شرطة الاعتداءات، وحكايات النساء على مواقع التواصل الاجتماعي عن حوادث واعتداءات وقعت في الماضي، من دون اتخاذ خطوات قانونية، أثارت تساؤلات عن المدد القانونية للإبلاغ عن الحوادث والاعتداءات الجنسية في مصر، واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي كـ"بديل للقانون" يعيد للناجيات حقوقهن.
في هذا السياق، تقول المحامية ورئيسة مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون، انتصار السعيد، لوكالة "سبوتنيك"، "في القانون المصري من المفترض أن يتم الإبلاغ عن الجريمة بعد وقوعها مباشرة، وإذا لم يتم الإبلاغ عقب وقوع الجريمة مباشرة يعتبر تراخي في الإبلاغ، والتراخي في الإبلاغ قانونا يفسر لصالح المتهم".
وحول قوائم أسماء المتهمين بالتحرش وحكي بعض النساء قصصهن بذكر أسماء وتفاصيل عن المعتدين، تقول السعيد إن "ذكر أسماء أشخاص بعينهم فتح باب للملاحقة القانونية بتهمة التشهير، وهنا موقف القانون واضح وصريح، هذا يعد تشهيرا، وأنصح الفتيات ألا يذكرن أسماء الجناة بشكل صريح، يمكنهم حكي الواقعة أو الإشارة إليه باسم مستعار أو الحرف الأول من اسمه، أو أي شيء يدل علي الشخص ويعرف منه من دون ذكر الأسماء، فمن الممكن هنا أن يتم تطبيق قانون العقوبات وقانون الجرائم الإلكترونية، وقد تواجه الفتاة أحكاما بالحبس والغرامة، وقد تتم مطالبتها بتعويض".
لكنها تعود وتؤكد أن "الإنترنت برغم أهميته في توثيق قضايا التحرش والاعتداءات الجنسية إلا أنه ليس بديلا عن القانون، وأرى أنه لا غني عن تطبيق القانون في قضايا العنف الجنسي، الموضوع هنا يكون له علاقة أكثر بالعقاب المجتمعي وفكرة الفضح والحكي لكن في هذه الحالة لا غني عن تطبيق القانون، وعلي كل فتاة تعرضت لحادث تحرش أو عنف جنسي أن تلجأ إلى تطبيق القانون".
الرأي القانوني ذاته تتفق معه المحامية الحقوقية، عزة سليمان، إذ تقول لوكالة "سبوتنيك"، إنه "بشكل واضح، ذكر الأسماء يمكن أن يعرض الفتاة للمسائلة القانونية بتهمة التشهير".
وتابعت سليمان "أما بالنسبة للفتيات فيجب عليهن الحصول على استشارات قانونية، مثلا يمكنهم الحكي عن طريق ذكر أوصاف بدون ذكر الأسماء، رغم أنه هذا أيضا قد يحمل ارتباكا، وبشكل عام أنا لا أرجح الرسائل المجهلة، وبشكل عام أيضا الحكي على مواقع التواصل الاجتماعي لا يأتي بعدالة ولا إنصاف ولا مساواة، والرسائل المجهلة بهذا الشكل ممكن تدفع النساء لخسارة قضيتهن، لأن الحكي من دون ذكر أسماء أو تفاصيل أو وجود شهود أو وقائع يمكن الاستدلال منها على حدوث الانتهاك، لن يوقف المجرم الذي قام بالاعتداء بل بالعكس قد تجعل الناس تنفر من النساء وتتدعى أنها تصفي حسابات".
وتشير سليمان هنا إلى التعديل القانوني الذي أجرته الحكومة المصرية على قانون الإجراءات الجنائية، بما يحفظ هوية النساء المبلغات عن وقائع التحرش والاعتداءات الجنسية، حيث تقول إن "التعديل القانوني الذي تم مؤخرا يشجع الفتيات بالفعل على اتخاذ خطوات قانونية وهذا القانون كنا نطالب به منذ عام 2016، بالرغم من أن هذا القانون مازال بحاجة إلى تطوير من ناحية الإجراءات الفعلية لتطبيقه، مثل تخصيص باب خاص للمبلغة لدخول النيابة أو المحاكم، أو عدم استخدام بطاقات هويتهم الشخصية أو تخصيص قسم بالطب الشرعي للتعامل مع ضحايا الاعتداءات الجنسية، لكنه يشجع الفتيات على الإبلاغ".
وأكدت الحكومة أن هذا التعديل يهدف إلى حماية سمعة المجني عليهم، من خلال عدم الكشف عن شخصيتهم في الجرائم التي تتصل بهتك العرض، وفساد الخلق، والتعرض للغير، والتحرش، الواردة في قانون العقوبات وقانون الطفل، خشية إحجام المجني عليهم عن الإبلاغ عن تلك الجرائم".
وحول هذا التعديل أكدت عضو المجلس القومي للمرأة، سناء السعيد، أن "هذا التعديل ساعد جدا في تسريع التقدم ببلاغات، لأن المشكلة التي واجهتنا هي أن الفتيات كن خائفات من الكلام والبلاغ وكذلك عائلاتهن، كنا نحتاج لضمان سرية بياناتهن، حتى تتمكن من تحرير بلاغ حين تتعرض للانتهاك وتحصل على حقها لأن المقصود أن أي جرم لا يتم تداوله في الإعلام، أو يكون هناك تخويف [للضحايا] بقدر ما نريد أن كل ضحية تحصل على حقها بالقانون، ولذلك كنا نحتاج بشدة لهذا التشريع".
كما أكدت السعيد أيضا أن "مكتب شكاوى المرأة بالمجلس يتعامل بجدية مع أي شكوى ترد له، والخطوات التي تتخذ تظهر جدية المبلغة ونتحقق من مصداقية الشكوى مع الشاكية نفسها"، مشددة على أن "منصب الشخص المنتهك أو نفوذه أو أمواله لا تؤثر على قرار تحريك القضايا وإلا لما كان النائب العام لم يصدر قرارات بالتحقيق في قضايا مثل قضية بسام زكي، أو الفيرمونت، والمجلس يتحرك مع جميع الضحايا على حد سواء".
وأقر التحرش الجنسي في القانون المصري لأول مرة عام 2014 بعد حادث تحرش جماعي وقع في ميدان التحرير خلال الاحتفالات بفوز الرئيس عبد الفتاح السيسي، بالانتخابات المصرية، إذ أقرت الحكومة القانون، ونصت على لفظ "التحرش الجنسي" لأول مرة بعد أن كان القانون قاصرا على حوادث "الاغتصاب" و"هتك العرض"، ونص القانون على عقوبات تشمل الحبس الذي قد يصل لثلاث سنوات والغرامة لمن يثبت قيامه بالتحرش بأي وسيلة بما في ذلك الاتصالات السلكية واللاسلكية.