قبل 25 سنة دخل أبي إلى غرفتي، وكانت هذه زيارة لا يفعلها كثيرا، وجد بوسترات ألبومات جورج وسوف تملأ الجدران، صوره تغطي كل زاوية، في المنتصف كتبت بالطباشير "أبو وديع حبيب الملايين"، وعلى المكتب يستقر كاسيت قديم بباب واحد، وبجواره صف طويل من شرائط السلطان، سألني "هو مفيش غير الواد ده ولا إيه؟.. دا حتى شبه العيال الصيع".
أبي كأغلب الآباء يرى أن التمرد والاختلاف نوع من "الصياعة" غير المحببة في الغالب لأنها تشير إلى أن شيئا ما يحدث بعيدا عن عينه وسيطرته، ابنه كبر وبدأ يخرج من الدائرة التي صنعها حوله، ها هو يترك أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، ليصبح له ذائقة غنائية مختلفة.
هكذا ظهر جورج وسوف في وقته تماما، يغني عن الحب والخيانة والغربة وزمن العجائب والطبيب الجراح الذي يداوي قلوب الناس. مختلف في كل شيء؛ نبرة صوته وهيئته والحكايات حوله. حكايات نسعى لتصديقها. قال صديق: "شوفت آخر خبر؟"، نعلم أن الخبر سيكون عن جورج وسوف، فهذا ما يجمعنا ويشدنا، فيقول الصديق إن أحد أقاربه قرأ خبرا في مجلة عربية أن "جورج وسوف رفض حفلة في مصر لأن قيمة تذكرة دخولها مبالغ فيها، ولن يحضرها سوى الأغنياء"، يقول صديقي مستغلا لحظة انبهارنا "يابني جورج قال لهم أنا عايز سواقين التاكسي هما اللي يحضروا لي الحفلة"، فنان في قمة مجده يتحدث عن الفقراء أمثالنا! مصمصنا شفاهنا ونحن ننظر إلى صورته المعلقة على الجدار، وعلق صديق بأسى: "يارتني كنت سواق تاكسي يا أخي".
يبدو خبر الحفلة غير حقيقي، لكن لماذا صدقناه؟ ببساطة لأننا نريد أن نصدقه، ولأنه كلام يمكن فعلا أن يقوله جورج، فقط هو الذي يستطيع قول هذا، فهو يشبهنا في الملابس، والشكل، والكلام، لم يتورط في "نيولوك" كما كان يفعل من هم مثله، يتحدث بعفوية شبابية صادقة، "حلوين من يومنا.. والله قلوبنا كويّسة" (الغالي 1990).
تعرفت إلي أغانيه منتصف التسعينيات، في المرحلة التي بدأت كتابة الرسائل الغرامية للبنت التي تزاملني في الفصل، هي نفس الفترة التي بدأت فيها التدخين، وتجريب ما يمكن تجريبه من الدخان. الحكاية الشعبية تقول إن جورج لا يصعد إلى المسرح إلا وهو "مبسوط"، وكل منا يفسر على مزاجه كيف يكون الانبساط. ونحن جميعا نريد الانبساط، فيصبح صوته رفيقنا في السهرات وقعدات "الترلملم" كما اسماها محمود عبد العزيز في فيلم "الكيت كات".
وهو يشبهنا تماما. يفعل ما يحلو له، وهو غالبا يحلو لنا، لا يمكن أن تضبطه يفعل أو يقول ما يرضي الناس، فمن بدري اقتنع أن "كلام النّاس لا بيقدّم، ولا يأخّر"، يعلن بشكل واضح وصريح أنه "حاسس وشايف وفارس ومش خايف" من هذا المجتمع بكل ما يحمله من تقاليد وثوابت، أنه يقدم دعوة صريحة بأن نخرج معه على المألوف، ونحطم المستقر ونصنع قيمنا التي نريد، هي حياتنا فتعالوا بنا نعيشها كما نريد. وليس كما يريدون، فـ"لو مهما الناس يلومونا… ما أحنا حبينا وحبونا".
هكذا وضع جورج وسوف نفسه، ليس فقط كمغني مختلف، وإنما كرمز للاختلاف ذاته، يعبر عن مرحلة كاملة بكل ما فيها من طموح ورغبة وأمل وتهور وجنون وهزيمة وضياع، فرغم صعوبة تصنيف جورج كمغني سياسي/ ثوري، لكن في نفس الوقت وبنظرة على منتجه لا يمكن أن تعتبره مغني عاطفي وفقط، هو بين هذا وذاك، تعامل مع الأغنية باعتبارها رأيه في الحياة بكل ما فيها من انتصارات وخيبات.
ابن سوريا القادم من قرية غالبيتها فقراء، يشبهنا ويشبه بلده بكل ما فيها من تناقضات وجمال وأحزان ومآسي. يصل إلى لبنان والحرب الأهلية اللبنانية (1975 -1990) مشتعلة، يشهد الاجتياح الإسرائيلي للبنان (1982). والحرب تكوي حتى وإن لم تحمل السلاح، وروح جورج انكوت بالحرب لكنها لم تستسلم لها. ستمر حروب كثيرة على "أبو وديع" كما يحلو لجمهوره أن يناديه، ولن يستسلم لكن، لأنه مثلنا، يكتئب ويغضب فيغني من جديد، "الليالي تمرّ علينا، والسهر جرّح عنينا… باعوا فينا واشترونا وما حكينا… آه يا ريتهم بالمحبة ينصفونا" (أغنية "الحبايب" في ألبومه الأول "الهوى سلطان" ١٩٨٤).
يعيش اللحظة الحريرية (رفيق الحريري) بكل ما فيها من شعارات عن عالم سعيد في انتظار البلد المنكوب بالحرب والقتل والدمار، صدق وفرح واكتشف أن هذا لم يحدث فصدم وحزن لكنه غنى: ".. وأعرف منّه جواب لحالتنا اللي إحنا فيها.. ليه ورّانا الجنّة وناره سابنه فيها"، (ألبومه الثاني "روح الروح" ١٩٩٢).
يمرض ويتألم ويغيب سنوات عن جمهوره، لكنه يعود ليغني. مثلنا يتألم ويمرض ويشيخ، وهل يشيخ النجوم؟ نعم جورج فعلها، فليس كل النجوم، هو يشبهنا، لا يخجل من شيء، الفتى الصغير الذي كان صوته نقيا عفيا يقف على المسرح لساعات يغني ويتفاعل مع الجمهور، تحشرج صوته وتغير لكنه لا زال يغني بنفس الروح والطرب وبدلا من الوقوف على المسرح صار يجلس. لم يتجمل، وكنا جميعا شاهدين على الطفل الذي صار شابا ثم عجوزا، تغير شكله لكنه يتمسك بنفس الروح.
قريب من جمهوره، وحقيقي إلى أقصى درجة، ينادي جمهوره بـ"حبايبي"، ويوزع القبل عليهم طوال الوقت، يتوقف عن الغناء على المسرح تاركا لجمهوره مساحة للغناء، ويصفق لهم عندما ينتهوا، في إحدى لقاءاته التلفزيونية التي يحضرها عادة الجمهور، يحاول شاب الاقتراب منه لتقبيله، فيمنعه الحرس، لكن جورج بكل تلقائية يأمرهم بأن يتركوا الشاب يقترب، وعندما يصل عنده يسأله جورج ببساطة: "مغسل وجهك؟"، فيرد الشاب بالإيجاب، فيعود جورج مازحا مع الشاب: "إيديك ورا ضهرك بس"، فيفعل الشاب ويتقدم نحو جورج ويقبله على وجنته ورقبته، فيرد جورج: "يحرق عرضك هيدي بوسة ولا كجة!".
يبدو وسوف تلقائيا إلى أقصى درجة، فلو صدر رد الفعل هذا من غيره لكانت هناك مشكلة، لكنها العلاقة التي تربط المحب بأحبابه، لا مساحة فيها للغضب.
يخاطب الفقراء أمثالنا، محاولا كسر السيطرة المادية على العلاقات الإنسانية/ العاطفية في عالم تحكمت الرأسمالية في كل شيئ حتى الحب، فيغني واحدة من أجمل وأشهر أغانيه "زمن العجائب": "لا بالجمال ولا كتر المال، تمسح دموع اللي انظلم، على أي حال ابن الحلال، هو اللي يصبر عالألم"، وكأنه يخوض معركة كبيرة ضد "المجتمع المادي"، بل ويدعونا أن نخوض المعركة ولا نقف، "ما فيك تغمض عينيك.. وتعمل حالك مش شايف..صدقني بتروح عليك.. قوي قلبك ليه خايف"، وبكل عدمية الدنيا يقولها بكل صراحة "أهي دنيا عايشين فيها وبس" فلا تبحث عن أي شيء. ببساطة أنت عايش وبس.
المقال يعبرعن رأي كاتبه