تركت بسيليس لعشاقها ومحبي الطرب الأصيل والغناء الهادف، كوكبة كبيرة من الأعمال الراقية ورصيدا كبيرا من الأغاني المميزة لحنا وكلمة وصوتا وإحساسا.
لا نستطيع أن ننكر أن أي عمل غنائي هو حصيلة جهد جماعي، لمجموعة من الأشخاص بمن فيهم الشاعر والملحن والمطرب، ولكن الأخير دائما ما يحظى بالنصيب الأكبر من الإطراء والمديح عند نجاح العمل، وذلك لأنه هو الوحيد الذي يستطيع إخراج النص الجميل والموسيقى المتناغمة بصورة تدخل بسرعة إلى قلوب وخواطر المستمعين، حتى أننا نجد بعض المطربين يلقون نجاحا في أغانيهم، بغض النظر عن كلماتها وألحانها، فالاسم أحيانا قد يكون كافيا ويسهم في نجاح الأغنية قبل أي شيء آخر.
وهنا نجد بسيليس وقد أبدعت في هذا الدور، لقد استطاعت، ببعض الكلمات البسيطة والسهلة والقريبة من حياة السوريين اليومية، أن تدخل كل بيت سوري دون استئذان، إذ لا يختلف على جمال صوتها وحب أغانيها اثنان في سوريا.
فقد غنت الراحلة الكلام السهل الجميل، والمعبر في نفس الوقت، في "كذبك حلو"، الحائزة على جائزة أفضل أغنية عربية عام 1999 في مهرجان القاهرة، وفي "مافي شي مستاهل"، الأغنية التي تجعلك تشعر بالتفاؤل في أصعب اللحظات التي تمر بها، وفي "يا طيوب"، الأغنية التي غنتها بلهجتها الحلبية الجميلة، وفي "عادي" الأغنية التي ترفض فيها أن يكون كل شيء في الحياة عاديا وتطالب أن يتعامل الشخص مع كل شيء يواجهه في الحياة بقدر أهميته، ولا يستسلم لكل ما يواجهه ويتقبله بعبارة "عادي"، وغيرها الكثير من الأغاني الهادفة البعيدة عن ما نراه اليوم في عدد كبير من الأغاني المنتشرة في كل مكان على السوشيال الميديا، والتي انحدرت في رداءتها إلى ما دون مستوى "الأغاني الهابطة".
ولأن الفن رسالة، لم تكتف بسيليس بأغاني الحب وشد العزيمة والتفاؤل والفرح، بل غنت الوطن والعروبة والأم والقضية الفلسطينية، وها هي أغنيتها أجراس بيت لحم تشهد على ذلك، حيث تصرخ فيها في وجه الظلم الذي يعانيه الفلسطينيون في كل مكان، وتخاطب فيها القدس وكل بقعة في فلسطين المحتلة وتصور فلسطين وكأنها عروس أسيرة تتنظر أن يخلِّصها حبيبها من الأسر ويعيدها إلى حضنه الدافئ المليء بالحنان والأمان.
وكذلك لا يمكننا أن ننسى أغنية "أرضي يا أمي"، وفيها تجمع الراحلة بصوتها العذب الأرض والأم في أغنية واحدة، فترى الأم أرضا نسكنها ونحتمي فيها ونقطف من ثمار تعبها وسهرها وتربيتها، وترى الأرض أما تمنح أبناءها قوة لا مثيل لها بمجرد ضمها لهم إلى صدرها، وهذا ما تؤكده كلمات الأغنية:
"يا سماء على الأرض يا أرضي يا كل بعضي ... يا سماء بلا غيم يا أمي يا بلسم همي... يا مائي و خبزي و هوائي و كنزي... لميني ضميني جن شوقي و حنيني".
قدرتها على إيصال المعنى الحقيقي للكلام بصوتها المميز جعلها تغني العديد من شارات المسلسلات السورية، فأضفت على جمالية هذه الأعمال جمالية أخرى، إذ غلفتها بصوتها النقي ومنحتها نفحة موسيقية رائعة. ومن أهم تلك الأعمال غناؤها لشارة مسلسل "أبناء القهر"، والعبارة الشهيرة "من حقو المقهور يصيح"، وفيها دعوة لحماية أبسط حقوق الإنسان ألا وهي الحق في التنفس والتنهد والصراخ عندما يواجه ظلما لا يستطيع رده.
ميادة بسيليس، الراحلة، كانت وستبقى من قلاع سوريا الشامخة، حتى وإن رحلت عنّا جسدا إلا أن روحها وإحساسها سيبقيان في ذاكرة الجمهور السوري، وسنبقى نستمع كل يوم لعذب أغانيها وحلو كلامها وستظل كما كانت ياسمينة دمشقية تفوح بعطرها في جميع مشارق الأرض ومغاربها.
فلترقد روحك بسلام، وشكرا لك من القلب، فقد استطعت أن تتركي بصمة لدينا لن ننساها ما حيينا، وجمعت في حبِّ فنِّك كل أطياف الشعب السوري.
"المقال يعبر عن رأي كاتبه".