تأتي التصريحات التركية لتعطي إشارة عن إمكانية حلحلة هذا الملف، والتقارب بين أنقرة ودمشق، وتسوية الصراع المستمر منذ العام 2011، بيد أن الوضع لا يزال غامضًا ولم يصل إلى درجة الوضوح بعد.
وطرح البعض تساؤلات بشأن الأسباب التي تقف خلف تصريحات الرئيس التركي، وإمكانية تطبيع العلاقات وتسوية الخلافات بين الدولتين.
وأكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أنه "بمجرد اتخاذ بشار الأسد خطوة نحو تحسين العلاقات مع تركيا، سوف نبادر بالاستجابة بشكل مناسب".
وتابع في تصريحات صحفية: "سنوجه دعوتنا للأسد، وبهذه الدعوة نريد أن نعيد العلاقات التركية السورية إلى نفس النقطة التي كانت عليها في الماضي"، وفقا لوكالة أنباء "الأناضول" التركية.
وكان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أكد يوم الجمعة الماضي، أن بإمكانه بالتعاون مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، "توجيه دعوة" إلى الرئيس السوري بشار الأسد، لبدء عملية تطبيع جديدة للعلاقات مع سوريا.
تطبيع العلاقات
اعتبر الدكتور أسامة دنورة، الخبير السياسي والاستراتيجي السوري، أن تصريحات أردوغان الأخيرة تمثل المسعى الأكثر وضوحاً ومباشرة لتحقيق خرق على مستوى تطبيع العلاقات بين البلدين، حيث قال: "لا يمكن أن يكون لدينا أبدا اهتمام أو هدف للتدخل في شؤون سوريا الداخلية"، وهو ما يمثل تغيرا مهما في الموقف التركي الذي لطالما قرن انسحاب القوات التركية بالحل السياسي في سوريا.
وبحسب حديثه لـ"سبوتنيك"، يمثل حديث أردوغان عن دعوة الأسد إلى أنقرة، وعودة العلاقات إلى ما كانت عليه من تنسيق سياسي واقتصادي قبل الحرب، تعديلًا مهما جدا أراد له أردوغان أن يمثل انعطافاً جوهريا في المخيلة الجمعية السياسية والشعبية حول مستقبل العلاقات مع سوريا.
وتابع: "الحكومة السورية تؤكد ضمناً على عدة متطلبات لازمة، وقد تكون كافية، لتطبيع العلاقات بين البلدين، حيث يقف في طليعة هذه المتطلبات انسحاب قوات الاحتلال التركي من الأرض السورية، ورفع غطاء الحماية الاستراتيجية الذي تأمنه أنقرة للمجموعات المسلحة، ووقف التدخل في الشأن الداخلي، أما التنسيق الأمني لضمان أمن الحدود على كلا الجانبين، وفق تفاهم أضنة أو سواه، وهو ما تعتبره الحكومة السورية، على ما يبدو، أمرًا مفروغا منه، ومن الثوابت البديهية في العلاقات المستقبلية بين البلدين".
ويرى دنورة أن هناك عوامل عدة أثرت وتؤثر على الموقف التركي، فاللجوء السوري في تركيا يتحول يوماً بعد يوم إلى أزمة تصعب السيطرة عليها، والأحداث الأخيرة التي تضمنت أعمال عنف ضد متاجر وممتلكات السوريين بمدينة "قيصري" بوسط الأناضول، ثم امتدت إلى أنحاء أخرى في البلاد، تمثل أحدث مظاهر قنبلة اللاجئين الموقوتة في البلاد، لا سيما أن السلطات التركية اضطرت لاعتقال المئات من المتورطين الأتراك في أعمال العنف ضد السوريين.
من جانبٍ آخر – والكلام لا يزال على لسان دنورة - فإن الانتخابات التي أزمع ما يسمى مجلس سوريا الديمقراطية "مسد" على تنظيمها في الشمال الشرقي السوري مثلت صداعا جديدا في رأس أردوغان، بل في رأس دولة الأمن القومي التركي بكل مكوناتها، فالدوافع الانعزالية، وربما الانفصالية لـ "قسد" و"مسد" ، قد تمثل الخطر الأكبر على استقرار تركيا، والتي تضم أرضها الجزء الأكبر من كردستان من حيث الثقل الديموغرافي.
وأوضح أن انسداد أفق مشروع المعارضة المسلحة فيما يتعلق بتغيير الحكم في سوريا، جعل من هذه المجموعات الإرهابية بمثابة الأحمال الزائدة التي يمكن أن تضر دون أن تنفع، وفي هذا السياق، تمثل التطورات الأخيرة في الموقف التركي استمرارية لسياق أستانا، وما أسفر عنه من تسويات مرحلية، واتفاقات لمناطق خفض التصعيد، وهو الأمر الذي تلكأ تطوره لمدة طويلة نسبياً، ومن المنطقي أن ينتهي بتفكيك المجموعات الإرهابية وسحب القوات التركية من الأراضي السورية.
ويرى دنورة أن تباطؤ مسار التطبيع رغم كل تلك المقدمات قد يبقى وارداً طالما لم يتم الإعلان عن تفاهمات رسمية أو خارطة طريق، أو إعلان نوايا وتعهد رسمي بإنهاء المظاهر المختلفة للانخراط التركي في الوضع السوري.
ضغوط تركية
من جانبه، اعتبر المحلل السياسي السوري، غسان يوسف، أن التصريحات الأخيرة للرئيس التركي تأتي ضمن سلسلة من التصريحات المتكررة التي أطلقها منذ أغسطس/ آب 2022، في أعقاب قمة شنغهاي، حيث أعلن عن رغبته في لقاء الرئيس السوري خلال القمة، لكنه لم يحدث.
وبحسب حديثه لـ "سبوتنيك"، منذ ذلك التاريخ، توالت التصريحات واللقاءات بين وزراء الدفاع والخبراء ونواب وزراء الخارجية، ووزراء الخارجية، إضافة إلى تصريحات الرئيس أردوغان بأن بلاده تريد عودة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل عام 2011.
ويرى يوسف أن المشكلة هنا تكمن في عدم تطرق الرئيس أردوغان إلى مشكلة الاحتلال التركي للأراضي السورية، وعن كيفية الانسحاب، وتفكيك الإرهاب في إدلب، ولا يمكن لدمشق التعامل مع دولة تحتل أرضها، أو تتعاون في مسألة بعينها وتبقى المسائل الأخرى عالقة.
وأوضح أن الدولة السورية كان رد فعلها هادئًا وباردًا، ولم تعلق على الأمر، ولم تتحرك الحكومة، حيث تصنف هذه التصريحات بأنها مجرد أقوال وليست أفعال، والتي تأتي بسبب الحصار المفروض على الرئيس أردوغان من قبل أحزاب تركية، سواء المشاركة معه في الحكم، أو المعارضة.
وأوضح أن هناك تنافسا بين الرئيس التركي ورئيس حزب الشعب الجمهوري، الذي أعلن عن رغبته في زيارة دمشق، وهذا التنافس يشمل كذلك فكرة تطبيع العلاقات مع سوريا، بيد أن الوضع ضاغط على الرئيس التركي، سواء بسبب الاعتداءات على اللاجئين، أو الانتفاضة التي حصلت في شمال سوريا ضد الاحتلال التركي، وتحميله مسؤولية ما حدث من فشل.
وكان الأسد قد صرح في 26 يونيو/ حزيران الماضي، خلال لقاء مع الممثل الخاص للرئيس الروسي، ألكسندر لافرنتييف، أن "سوريا منفتحة على كافة المبادرات المتعلقة بعلاقاتها مع تركيا والمبنية على احترام سيادة البلاد".
وفي يونيو الماضي أيضا، قال مصدر في السلطات الأمنية السورية لوكالة "سبوتنيك"، إن "نقطة التفتيش التي تفصل بين المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الموالية لتركيا والأراضي الخاضعة لسيطرة السلطات السورية بدأت العمل في وضع تجريبي، وسيتم افتتاحها أخيرًا في الأول من يوليو/ تموز الجاري".
وفي وقت سابق، أفادت صحيفة "أيدينليك" التركية، نقلا عن مصادر، أن الوفدين العسكريين لتركيا وسوريا، بوساطة روسية، أجريا مفاوضات في قاعدة حميميم الجوية، ومن المتوقع أن يكون الاجتماع المقبل في بغداد.
وكما قال لافرينتييف، في مقابلة مع وكالة "سبوتنيك"، فقد سلمت موسكو لأنقرة ودمشق، مسودة خارطة الطريق لتطبيع العلاقات بين الجانبين، مشيرًا إلى أنه بإمكانهما إجراء تعديلات.
وسبق أن حدد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، المواضيع ذات الأولوية في خارطة الطريق، بما في ذلك حل مشكلة استعادة سيطرة الحكومة السورية على جميع أنحاء البلاد، وضمان أمن الحدود السورية التركية، والقضاء على احتمال وقوع هجمات عبر الحدود وتسلل الإرهابيين.