في ليلة الحادي والعشرين من شهر تموز/ يوليو لعام 1941، قصفت الطائرات الألمانية ولأول مرة العاصمة السوفيتية موسكو.
جميع الصحف والإذاعات التابعة للعدو النازي كانت تؤكد بنصر سريع على الاتحاد السوفيتي، حتى أن وزير الدعاية غوبلز أعلن رسمياً عن إلحاق الهزيمة النكراء بالطيران السوفيتي، وردد وراءه رئيس سلاح الجو الألماني غورينغ الذي أقسم بأنه لن تسقط قنبلة واحدة أبداً على برلين.
ولهذا، ومن أجل تلقين درس لن ينساه العدو الوقح، قررت القيادة السوفيتية إرسال مقاتلاتها لقصف برلين من قبل سلاح الجو التابع لأسطول البلطيق بقيادة العقيد يفغيني بريأوبراجينسكي.
يشار إلى أن العملية أعدت بسرية تامة. وفي وقت متأخر من الليل تم إيصال الوقود الاحتياطي والقذائف والقنابل إلى مطار جزيرة إيزيل (ساريما) قبالة الساحل الغربي لإستونيا. وبعد ذلك تم إرسال قاذفات بعيدة المدى من طراز "إيل-4" إلى هذا المطار أيضاً.
وبحسب رأي الخبراء، فإن هذه المهمة كانت في غاية الخطورة، لأنه كان على الطاقم الطيران لمسافة 1800 كم فوق أراضي العدو، والتغلب على أنظمة الدفاع الجوي القوية التي نصبت لحماية برلين، علماً أن كل طائرة من هذه الطائرات كانت محملة ومدججة بالقذائف والقنابل، بحيث أصبحت غير قادرة تقريباً على المناورة، وبالتالي باتت هدفاً مثالياً للعدو. وقتها اتخذ الطيارون قراراً وحيداً وهو الحفاظ على الحد الأقصى من الارتفاع وهو 7000 متر.
بداية كانت الطائرات تحلق فوق بحر البلطيق ومن ثم توجهت نحو الجنوب لتجعل من قبلتها العاصمة الألمانية برلين. في هذه الأثناء اعتبر النازيون القاذفات السوفيتية على أنها مقاتلات ألمانية لأنهم لم يكن ليتصورا بأن سلاح الجو السوفيتي المدمر قادر على مثل هذا العمل الجريء. وفي الساعة الواحدة والنصف ليلاً، وصل الطيارون السوفيت أخيراً إلى هدفهم، حيث كانت عاصمة ألمانيا تسطع بالأضواء الباهرة وكأنها تعيش حياة سلمية لا تأبه بأي شيء!. وبالطبع، فإن سكان برلين الذين صدقوا وعود القادة النازيين لم يكن ليتوقعوا هكذا هجوم، وبالتالي لم يلتزموا بأدنى شروط الحرب وهي إطفاء الإنارة ليلاً. بالطبع، سقطت القنابل على الأهداف التي تم تحديدها، وبدأت تسمع أصوات الانفجارات في المنشآت العسكرية والمصانع، وبدأت حالة من الذعر تدب في قلوب سكان برلين. وقتها اخترق الطيارون السوفيت الصمت وتحدث مسؤول الاتصالات في الطائرة فاسيلي كروتينكو مبتهجاً: "موقعي الآن برلين! تم تنفيذ المهمة والآن نحن نعود إلى قواعدنا!". وبعد أن أصيب الألمان بصحوة بدؤوا بفتح نيرانهم الكثيفة، ولكن بعد فوات الأوان، حيث عادت طائرات العقيد إلى أماكنها سالمة واستقبل الطيارون كأبطال.
بالطبع أصيب الألمان بصدمة جراء هذا القصف المفاجئ لعاصمتهم ولم يصدقوا بأن الروس هم من هاجموا برلين! وفي اليوم التالي، أعلنت الإذاعة الألمانية بأن سربا بريطانيا مؤلف من 150 قاذفة حاولت أن تخترق أجواء برلين. في هذه الأثناء أصيب البريطانيون بدهشة من هذا النبأ، حيث أعلن المتحدث الرسمي البريطاني قائلاً: "إن بيان ألمانيا حول قصف برلين مثير للاهتمام والغموض في الوقت نفسه، وذلك لأن الطيران البريطاني لم يحلق في السابع والثامن من شهر آب/ أغسطس فوق برلين". وهنا وضع المكتب الإعلامي السوفيتي النقاط على الحروف عندما أعلن بأن الطائرات السوفيتية هي من قصفت عاصمة ألمانيا النازية.
لابد من أن نذكر بأن غارات أخرى تلت الغارة الأولى على العاصمة برلين، ولكن الألمان كانوا حينها في حالة تأهب، وكان على الطيارين السوفيت أن يشاركوا بمعارك جوية من أجل تحقيق المهمة الصعبة والوصول إلى الهدف، واستمرت الطلعات السوفيتية حتى الخامس من شهر أيلول/ سبتمبر، إلى حين احتلال القوات الألمانية الأراضي الإستونية، واضطرت القيادة السوفيتية مغادرة المطار المخصص للقاذفات بعيدة المدى في جزيرة "ساريما". ولكن وخلال شهر استطاعت القاذفات السوفيتية من قصف العاصمة برلين 10 مرات، وإسقاط أكثر من 36 طن من القنابل عليها، ولكن كان ذلك مقابل سقوط 17 طائرة سوفيتية.
بالطبع، فإن قصف برلين لم يلحق الضرر الكبير للقدرات العسكرية الألمانية، ولكن كان لها التأثير السياسي والنفسي الكبير على ألمانيا النازية، لأن هذه العمليات بددت الأساطير حول حصانة برلين وانهيار سلاح الجو السوفيتي. وقتئذ أثبت الاتحاد السوفيتي بأن الهزيمة التي لحقت البلاد في الأشهر الأولى من الحرب لم تكسر معنويات الجيش والشعب، وبرهنت بأن عمليات الثأر ستصيب العدو على طول الجبهة وفي عمق بلادهم على حد سواء.
ثمنت القيادة السوفيتية عالياً بطولات طياريها، حيث حصل 10 طيارين من أولئك الذين قصفوا برلين على لقب بطل الاتحاد السوفيتي ومنح البقية ميداليات مرموقة. ومع ذلك كله كان هناك أربع سنوات أخرى من المعارك القاسية والدموية. استمرت الحرب كما هو معلوم حتى شهر أيار/ مايو لعام 1945، عندما دخل الجيش السوفيتي، منتصراً، برلين.