المقاربات الإسرائيلية للصراع مع الفلسطينيين، في المدى المنظور، تعتمد على خيار تجميد المفاوضات والعملية السياسية، جنباً إلى جنب مع تكثيف المخططات والمشاريع الاستيطانية في القدس الشرقية وباقي أراضي الضفة الفلسطينية، المحتلة عام 1967، استناداً إلى تقدير خاص بأن قيام الفلسطينيين بانتفاضة ثالثة سيوقع خسائر إستراتيجية بهم، أو وفق المصطلحات الإسرائيلية الدارجة، سياسياً وإعلامياً، لأن لدى الفلسطينيين الكثير مما يمكن أن يخسروه، على عكس الانتفاضة الفلسطينية الأولى، في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 1987، والانتفاضة الفلسطينية الثانية، في 28 أيلول/سبتمبر عام 2000، والمواجهات التي تلتها وانتهت بإعادة الجيش الإسرائيلي فرض سيطرته التامة على المنطقة (أ)، المخصصة للسلطة الفلسطينية بناء على اتفاق "غزة — أريحا… أولاً"، الذي يعرف أيضاً بـ"اتفاق القاهرة"، الموقع في الرابع من أيار/مايو 1994، تطبيقاً لـ"اتفاق أوسلو".
حسب هذا الإدعاء الإسرائيلي عملت السلطة الفلسطينية، خلال السنوات العشر الماضية تحت قيادة محمود عباس، على بناء اقتصاد منظم وبنية تحتية بمساعدة الدول المانحة، تعرف السلطة جيداً أن إسرائيل لن تتردد في مهاجمتها وتدميرها إذا ما نشبت مواجهات واسعة بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال، ويساق على ذلك كمثال ما لحق بالبنية التحتية في قطاع غزة، حيث دمر الجيش الإسرائيلي غالبية المنشآت الحيوية التي بنيت في القطاع بعد قيام السلطة الفلسطينية، وأكثرها تم إنجازه بتمويل أوروبي وأميركي، والباقي بتبرعات من دول الخليج العربية ودول أخرى.
الرئيس السابق للجنة التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية والحاكم العسكري السابق في جنين وبيت لحم، الكولونيل في الاحتياط موشيه إلعاد، كتب مقالة في صحيفة "إسرائيل اليوم" بتاريخ 31/8/2015، وترجمتها "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، ردد فيها المقولات الإسرائيلية، التي تحمل في طياتها تهديداً صريحاً للفلسطينيين. إلعاد عنون مقالته بـ"الفلسطينيون يعلمون أن لديهم ما يخسرونه"، ووضع الخسائر الكبرى المتوقعة، استناداً إلى مزاعمه، في مجموعة من النقاط: خسارة الفلسطينيين لاقتصادهم، وخسارة المميزات من العلاقة مع إسرائيل تجارياً واقتصادياً، وزيادة نسبة البطالة، ووقف الحركة العمرانية في مدن الضفة، والحد من حرية الحركة… الخ.
الطريف في مقالة إلعاد قوله بأن هناك كابحا آخر يمنع الفلسطينيين من الذهاب إلى انتفاضة ثالثة، وهو ما يسميه بـ"نضج السكان"، ويلاحظ هنا أن إلعاد مازال يستخدم المصطلحات التي تعود عليها عندما كان حاكماً عسكرياً، لأنه لا يريد أن يعترف بالفلسطينيين كشعب، بل يتعامل معهم كمجرد "سكان مناطق" يديرها الاحتلال.
أما ما يعنيه إلعاد بـ(النضج) فهو لا يعدو كونه أيضاً نوعا من الوعيد والتهديد، إذ أن "عدم النضج" بنظره، وبنظر من يشاطرونه الرأي، يستوجب تذكير الفلسطينيين بما يجري في سورية والعراق واليمن وليبيا، وقبل ذلك ما جرى في قطاع غزة، والوعيد ينطبق على ما هو أقل من انتفاضة ثالثة، فباعتقاد الكولونيل إلعاد أن أي شكل من أشكال مقاومة الاحتلال سيوقع خسائر كبرى بالفلسطينيين، بينما يغفل بالمطلق الحديث عن خسائر ستلحق بالجانب الإسرائيلي إذا ما اندلعت انتفاضة فلسطينية ثالثة.
وفي واقع الأمر لدى إسرائيل أيضاً الكثير مما يمكن أن تخسره، مثلما لدى الفلسطينيين، وفي حين أن إسرائيل لن تربح في المحصلة النهائية شيئاً على المستوى الاستراتيجي للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، نجد أن الفلسطينيين رغم ما قد يخسرونه، جراء رد الفعل الإسرائيلي، إلا أنهم يمكن أن يحولوا خسائرهم إلى مكاسب في المدى المتوسط، بعودة الصراع إلى ما هو عليه حقيقية، كصراع بين شعب تحت الاحتلال وقوة احتلال، وبحرمان إسرائيل من أن تحوِّل احتلالها للأراضي الفلسطينية إلى "احتلال ديلوكس"، والوصف لوزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشي ديان، بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية والسياسية الكبيرة التي ستلحق بإسرائيل، مما يعني أنه إذا كان الفلسطينيون سيخسرون في ذهابهم إلى انتفاضة ثالثة، فالإسرائيليون سيخسرون أيضاً، وربما تكون خسارتهم أكبر في المحصلة الإجمالية.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)