.كان رجال الأعمال الأمريكيين وأصدقائهم من المسؤولين في الإدارة الأمريكية لم يتمكنوا لفترة طويلة من نسيان هتلر حليفهم الكبير ما قبل الحرب
الجزء الأول — قبل بداية الحرب العالمية الثانية
وفي الوقت الذي سقط فيه المزيد من الضحايا في صفوف الجنود الأمريكيين الذين كانوا يقاتلون ببسالة في صقيلة وعلى شواطئ نورماندي، كانت أنابيب الوقود الأمريكي تتدفق وكانت قطع الغيار وأحدث التقنيات تصل إلى أيدي النازيين حالما دعت الحاجة إليها.
جدير بالذكر أن الصحفية الأمريكية آنيت إنتون من صحيفة ديترويت نيوز أجرت مقابلة مع الزعيم الألماني الجديد آنذاك أدولف هتلر. وقتئذ لاحظت الصحفية وجود صورة لهنري فورد مؤسس شركة فورد لصناعة السيارات على طاولة الزعيم النازي الذي علق على دهشة آنيت بكل صدق قائلاً: "أنا أعتبر هنري فورد شخصية ملهمة بالنسبة لي".
ربما يكون هنري فورد الأب الشخصية التي مثلت البزنس الأمريكي آنذاك، وكان في الوقت نفسه صديقاً كبيراً للفوهرر. وباعتبار هنري واحداً من البوابات الرئيسية لسوق الولايات المتحدة الأمريكية فقد وفر فورد دعماً مالياً كبيراً للحزب النازي. وللتعبير عن امتنانه لم يكتف هتلر بتعليق صورته على حائط مقر مكتبه في ميونيخ، ولكن كتب عنه بإعجاب في كتابه "كفاحي". ورداً على ذلك كان فورد يهنئ صديقه الألماني سنوياً بعيد ميلاده ويقدم له هدية تبلغ قيمتها 5 ألاف دولار، وهذا كان مبلغاً طائلاً في ذلك الوقت.
جدير بالذكر أن الشركات التابعة لفورد في ألمانيا وبلجيكا وفرنسا قدمت لهتلر قبل بداية الحرب حوالي 65 ألف سيارة شاحنة، بالإضافة إلى أن شركة فورد في سويسرا قامت بإصلاح الآلاف من الشاحنات الألمانية، وهنا لابد أن نذكر شركة أمريكية معروفة لصناعة السيارات وهي "جنرال موتورز" التي قامت أيضاً بإصلاح الآلاف من السيارات الألمانية، مع الإشارة إلى أن هذه الشركة الأمريكية كانت أكبر مساهم لشركة صناعة السيارات الألمانية "أوبل"، وواصلت تعاونها الوثيق مع هذه الشركة الألمانية طيلة فترة الحرب وحصلت على أرباح كبيرة. لكن الحقيقة هي أن فورد كان أكبر من هذه المنافسة!.
#Volkswagen Hitler's T-ford. pic.twitter.com/5ftr4zUIN4
— Jelle Simons (@jelle_simons) September 22, 2015
وبحسب رأي المؤرخ العسكري الأمريكي هنري شنايدر فإن فورد ساعد الألمان للحصول على مادة الكاوتشوك التي تعتبر من المواد المطاطية الحيوية للصناعة الألمانية. ولم يقتصر الأمر على ذلك فقد كان مالك هذه الشركة الأمريكية العملاقة يزود هتلر بالتقنيات العسكرية حتى بداية الحرب العالمية الثانية. ولذلك، وتكريماً لذكرى مرور 75 عاماً على ميلاد فورد منحه الفوهرر الوسام الأعلى للرايخ الثالث المخصص للأجانب وهو عبارة عن صليب كبير وفي داخله النسر الألماني، حتى أن القنصل الألماني قام بزيارة ديترويت لتقليده شخصياً. وبطبيعة الحال عبر فورد عن بالغ سروره لهذه الجائزة الكبيرة، مع العلم أن نحو 1500 شخصية من أثرياء ديترويت تم دعوتهم لحضور اليوبيل في 30 من شهر تموز/يوليو لعام 1938.
الجزء الثاني — الحرب العالمية الثانية
لابد من التنويه أن فورد حتى بداية الحرب العالمية الثانية لم يوقف تعاونه مع النازيين وفي عام 1940 رفض فورد جمع محركات الطائرات البريطانية في الوقت التي كانت فيه المملكة المتحدة في حالة حرب مع ألمانيا، في حين أن مصنعه الجديد الموجود في بلدة بواسي الفرنسية كان يقوم بإنتاج محركات الطائرات والشاحنات والسيارات الخفيفة للجيش النازي.
وفي نهاية الحرب قام سلاح جو الحلفاء بقصف المصنع في بواسي، إلا أن مصنع آخر لفورد في كولونيا لم يتم تدميره على الرغم من أن المدينة دمرت بالكامل. تجدر الإشارة إلى أن شركة فورد ومنافستها شركة جنرال موتورز قامت بعد الحرب مباشرة برفع دعوى ضد الحكومة الأمريكية للحصول على تعويض بسبب الأضرار التي لحقت بممتلكات الشركات في أراضي العدو، وبالفعل تمكنت هاتين الشركتين بفضل جهود كبار المحامين من الحصول على هذه التعويضات.
لم تكن شركة فورد الوحيدة من بين الشركات الأمريكية التي كان لها يد في تأسيس وإنشاء آلة الحرب الألمانية، حيث بلغت الاستثمارات الأمريكية في بداية الحرب العالمية الثانية في الشركات الموجودة على الأراضي الألمانية نحو 800 مليون دولار، منها 17.5 مليون دولار من شركة فورد و120 مليون دولار من شركة ستاندرد أويل أوف نيو جيرسي والتي يطلق عليها حالياً اسم إكسون، و35 مليون دولار من شركة جنرال موتورز.
Adolf Hitler's favourite author was Henry Ford. http://t.co/HaWn0saF4C pic.twitter.com/3yt2cZKrtS
— John Simkin (@johnsimkin) September 30, 2015
فعلى سبيل المثال قامت الشركات الأمريكية بتزويد سلاح الجو النازي الآلاف من محركات الطيران، والأهم من ذلك قدمت له الترخيص من أجل إنتاج هذه المحركات. فمثلاً كانت محركات شركة بي ام دبليو "هورينت"، التي كانت تثبت على أشهر طائرات النقل الألمانية آنذاك "يونكيرس-52"، تم إنتاجها بترخيص من شركة برات آند ويتني الأمريكية.
يشار إلى أن جنرال موتورز كانت تابعة لشركة أوبل في ألمانيا، مع الإشارة إلى أن مصانع هذه الشركة كانت تنتج المركبات المدرعة للرايخ الثالث بالإضافة إلى 50 بالمئة من المعدات الرئيسية للمقاتلات من طراز جونكيرس- 88. وفي عام 1943 صمم فرع شركة جنرال موتورز في ألمانيا محركات لأول مقاتلة نفاثة من طراز ميسر شميت- 262.
بطبيعة الحال كانت الحكومة الأمريكية تتصدى إعلامياً فقط لتواطؤ بعض الشركات الأمريكية مع النازيين. على سبيل المثال صدر قانون خلال الحرب تحت عنوان "قانون التجارة مع العدو"، والذي نص على اتخاذ تدابير رقابية قاسية في حال ثبت هذا التعاون. ولكن في واقع الأمر فإن العديد من المنظمات اللوبية ساعدت من خلال علاقاتها في الحكومة للتحايل على أي عقبات يمكن أن تواجهها تلك الشركات.
وقد ذكر المحامي الأمريكي جيمس مارتن الذي كان يعارض التعاون الاقتصادي مع العدو في كتابه "الشراكة في التجارة" قائلاً: "نحن في ألمانيا لم نكن نواجه مشاكل من قبل رجال الأعمال الألمان وإنما من رجال الأعمال الأمريكيين. إن الإزعاج الحقيقي كان من أولئك الأشخاص ذوي النفوذ في الولايات المتحدة. لم يكن يعيقنا أي قانون مصادق عليه من الكونغرس ولا أمر صادر من الرئيس الأمريكي ولا قرار صادر من الرئيس أو أي عضو من أعضاء الحكومة حول تغيير السياسة المتبعة. باختصار لم تكن الحكومة هي الجهة التي تعيقنا في عملنا. لكن القوة التي كانت تعقينا، كما أصبح ذلك واضحاً، كانت تتمتع بمقاليد التأثير التي تستخدمها عادة الحكومة نفسها، والحكومة تشعر ببعض الضعف النسبي أمام القوة الاقتصادية المتنامية للشركات وهذا بالطبع ليس جديداً.
وما يبعث للدهشة هو أنه بعد أن أعلنت ألمانيا الحرب على الولايات المتحدة، واصلت كبرى الشركات الأمريكية بالتواطؤ مع البيت الأبيض تعاونها مع النازي الألماني هتلر.
فعلى سبيل المثال زودت شركة ستاندرد أويل أوف نيوجيرسي "إكسون" النازيين بمادة البنزين ومواد التشحيم بقيمة مالية قدرها 20 مليون دولار. وإلى حين تنفيذ الإنزال الجوي للقوات الأمريكية في فرنسا، عملت قافلة السفن "نيترالنوي" الإسبانية حصرياً لصالح تأمين احتياجات الجيش الألماني عن طريق تزويده بالذهب الأسود الأمريكي، حتى أنه في الأشهر الأولى لعام 1944 استوردت ألمانيا ما يقارب 48 ألف طن من النفط شهرياً.
وفي عام 1942 شهدت الولايات المتحدة فضيحة صغيرة مفادها أن شركة ستاندرد أويل قلصت عمداً مادة الميثانول للجيش الأمريكي، مع العلم أن الميثانول كان يستخدم لإنتاج زيوت التشحيم على أساس الغاز الطبيعي "وهذه المادة كانت ضرورية للطيران عندما كان يحلق على ارتفاعات عالية"، وحمض الخليك "أحد مكونات المتفجرات"، والمطاط الصناعي. وأخيراً، وفي عام 1943، قامت عشيرة روكفيلر في فرنسا المحتلة ببيع 25 ألف طن من كبريتات الأمونيوم "وهو مكون من المتفجرات" و10 طن من القطن، على الرغم من حقيقة أن أمريكا يومها كانت بأمس الحاجة إلى هذه السلع.
بالإضافة إلى هذه المواد كانت الولايات المتحدة تصدر مادة المطاط الصناعي للألمان أيضاً، بالإضافة إلى وقطع الغيار للطائرات والسيارات والدبابات. لكن القيمة الأكبر كانت للشحنة من مادة التنجستن والتي قدرت بنحو 1100 طن حصلت عليها ألمانيا من أمريكا أثناء الحرب، ومن المعروف أن هذه المادة كانت عنصراً رئيسياً في تصنيع القذائف المضادة للدبابات وصناعة الالكترونيات.
هناك جانب مظلم متعلق بشركة SKF كبرى شركات المنتجة للعجلات الفولاذية في العالم، ففي الوقت الذي كانت فيه الشحنات الضخمة من هذه العجلات (أكثر من 600 ألف قطعة سنويا) تصل عبر أمريكا الجنوبية إلى العملاء النازيين، لم تكن شركة كورتيس رايت افياشن التي كانت تقوم بتصنيع محركات للقوات الجوية الأمريكية تحصل على هذه العجلات الفولاذية منذ فترة طويلة. علاوة على أن شركة بارت أند ويتني المصنعة لمحركات الطائرات لم تكن تحصل على حجوزاتها من شركة SKF للمادة نفسها. وبالتالي كانت الطائرات تتعرض لحوادث عديدة أدت إلى وقوع المزيد من الضحايا، هذا بالإضافة إلى أن بعض الطائرات لم تكن قادرة على الإقلاع إطلاقاً، ومنه يمكن الاستنتاج إلى أن الهم الوحيد لشركة SKF هو فقط جني الأرباح، فالغاية لديهم تبرر الوسيلة.
وعندما أوعز الجنرال الأمريكي هنري أرنولد قائد القوات الجوية آنذاك، القيام بغارة جوية على مصنع SKF في شفاينفورت، لكن الواضح أن العدو تمكن بشكل غامض الحصول على معلومات عن هذه الغارة، لذا حصن من مواقعه، وقام بإطلاق نيران المدفعية أسقط خلالها 60 طائرة أمريكية. وفي 19 من شهر تشرين الأول/أكتوبر أعلن أرنولد بصراحة لصحيفة نيوز كرونكل قائلاً: "لما كان بمقدورهم الدفاع عن المصنع لو لا حصولهم على تحذير في وقت مبكر".
كما قدمت الشركات الأمريكية المعونة للرايخ الثالث في مجال التكنولوجية العسكرية، حيث عمل الخبراء في شركة "إنترناشونال تلفون تلغراف" الأمريكية للاتصالات الهاتفية، في خضم الحرب جنباً إلى جنب مع زملائهم الألمان في سويسرا تحت إشراف وحماية جهاز المخابرات الألماني، حيث كان رئيس جهاز الأمن للمخابرات السياسية والتر شلينبيرخ واحداً من المساهمين في الشركة التكنولوجية. أما رئيس الشركة العقيد "سوستينس بين" قدم المساعدة للنازيين في ذروة الحرب في مجال تحسين أداء القنابل الجوية الموجهة، مع العلم أنه بمساعدة مثل هذه القنابل دمر الألمان بوحشية لندن وقاموا بتدمير السفن وإعطابها، ومن بين هذه السفن كانت الطراد الأمريكي سافانا.
وعندما تم محاكمة يلمار شاخت رئيس بنك الرايخ ووزير الاقتصاد، تذكر الاتصالات التي كانت بين شركة أوبل وجنرال موتورز وعرض أن يضع في قفص الاتهام كبار رجال الأعمال الأمريكيين، لكن هذا الأمر لم يلق أذاناً صاغية.