واقع الأمر أن نوايا الولايات المتحدة لم تنكشف فقط في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وإنما ظهرت قبل ذلك بعقد كامل، من خلال خطاب الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأب، الذي ألقاه بعد غزو صدام حسين للكويت، ليبشر بالنظام العالمي الجديد الذي خططت الولايات المتحدة له منذ زمن بعيد.
البداية
النظام العالمي الجديد
الأمر الغريب حقا أن هذا الخطاب قد تم إعداده قبل وقت إلقاء الخطاب بفترة، وتحديدا في الثاني من أغسطس/آب عام 1990، وهو اليوم الأول لغزو العراق للكويت، والأغرب أن في هذا الاجتماع المصغر لإعداد الخطاب، حضرت رئيسة الوزراء البريطانية في ذلك الوقت مارغريت تاتشر. وبعد أن ألقى الرئيس الأمريكي خطابه، قام بتكليف ديك تشيني وآخرين بمهمة وضع هذا الخطاب في إطار نظري أوسع، لكن تعطل نظرا للخسارة التي مني بها في انتخابات الرئاسة الأمريكية، تعطل الأمر لبعض الوقت، رغم أننا جميعا نعرف أن الولايات المتحدة والدول الكبرى تعمل وفق استراتيجية ثابتة، أي أن العمل يستمر طالما كان في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يؤثر عليه وجود رئيس أو آخر، الخطط تستمر، وربما تمر بمراجعات، أو تعديل وفقا للمتغيرات على الساحة السياسية الدولية، ومستجدات الأمور.
عاصفة الصحراء وأزمة الخليج
لم يكن إقدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين على غزو الكويت محض صدفة، أو قرار اتخذه منفردا، دون الرجوع إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أو ربما بتحريض مباشر منها، فالولايات المتحدة تركت العراق ينفق المليارات على التسلح، حتى صار لديه ترسانة أسلحة ضخمة، منها أسلحة اشتراها من الغرب، تماما مثلما حدث مع إيران في فترة حكم الشاه. وقد رأى جورج بوش الأب في الأزمة التي نشبت بعد غزو العراق للكويت في الثاني من أغسطس عام 1990 — وهو للتذكير، نفس يوم الاجتماع الذي جرى لمناقشة محتوى خطاب الرئيس بوش، بصحبة رئيسة وزراء بريطانيا — فرصة ذهبية على الولايات المتحدة استغلالها جيدا، لأنها بمثابة جسر ذهبي تعبر عليه نحو مرحلة تاريخية مختلفة، تصبح فيها الولايات المتحدة بلا خصوم، في عالم تسوده الخلافات الصغيرة التي تحرق الجميع، دونها. وقد عبر الرئيس الأمريكي السابق عن أمله في أن تخلص الولايات المتحدة من الإرهاب بكافة أشكاله، وعن رغبة العالم المتحضر في سيادة يكون الهدف الحقيقي وراء الخطة الأمريكية التي تستهدف بناء نظام عالمي جديد، وفق الفكر الأمريكي، تحقيق المصالح الأمريكية، دون النظر لضحاياه، ولا الخسائر التي ستصيب الدول المستهدفة، ولا شعوبها، فليذهب العالم للجحيم، وتبقى الولايات المتحدة تتمتع بثروات العالم، فوق الأشلاء والجثث.
تصفية كافة الخصوم
رأى بوش الأب أن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تضع نصب عينيها تصفية كافة الخصوم ممن يهددون المصالح الأمريكية، وأن الخطة الأمريكية التي وضعت لهذا الغرض سوف تساعدها على التخلص من كافة الأعداء، خاصة في العالم الثالث. ثم أضاف أن على الولايات المتحدة أن تساعد هذه الدول على الركض من أجل التسلح، ثم تقوم الولايات المتحدة بعدها في تنفيذ خطتها في تفجير هذه الدول وإشعالها. وقد أكد بوش أن في العالم العديد من الأخطار التي تهدد مصالح الولايات المتحدة عليها أن تتعامل معها، لذا وجب على الكونغرس الأمريكي أن يعتمد خطة متكاملة للدفاع تضمن السلام والاستقرار، فقط من وجهة النظر الأمريكية، وليذهب العالم للجحيم، طالما بقت مصالح السادة بعيدة عن التهديد.
وقال بوش الذي استخدم عددا من العبارات اللامعة الجذابة إن "القوة العسكرية للولايات المتحدة هي الضامن الأكيد لقدرتها على فرض ما تراه — وما تراه فقط — على العالم".
واستخدم بوش عبارة الآباء المؤسسين للولايات المتحدة التي تصف الدولة أنها "دولة خاضعة لله"، وهذا يشير إلى أن لهذه الدولة الحق في فرض قيمها وما ترى على العالم أجمع، بأي وسيلة ممكنة، ولا يهم إن كان هناك ضحايا لما تراه هذه الدولة، طالما كانت راعية لمملكة الله على الأرض. وما وصفه بوش بالنظام العالمي الجديد هو في حقيقته نظام يخدم سادة الرأسمالية العالمية، ويثبت قبضتهم على العالم، لتحقيق مكاسب متزايدة. وسوف تقوم الولايات المتحدة بتصفية كافة الخصوم في سبيل تحقيق أهدافها.
من ناحية أخرى، يرى جورج بوش أن احتلال روسيا لدول البلطيق من الأمور الخطيرة التي تمثل تهديدا صريحا للولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا كما رأينا في الأحداث الأخيرة خلال الأعوام القليلة الماضية، تمثل صداعا في رأس الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن التدخل الأمريكي في مشكلة أوكرانيا غير محاولة لتطويق محاولات روسيا لتطوير وضعها الاستراتيجي. وأضاف جورج بوش أن إحياء فكرة حلف وارسو لا يجب أن يحدث مهما كان الثمن. وأخيرا أضاف أن امتلاك العراق وكوريا الشمالية من التهديدات التي يجب محوها من الوجود، لأن في ذلك خطورة على الولايات المتحدة ومصالحها. وأخيرا، كان للشرق الأوسط نصيب في قائمة التهديدات التي يراها بوش ضد الولايات المتحدة، فهو يرى أن هناك هجمات محتملة قد تطول الرعايا الأمريكان في منطقة الشرق الأوسط. لذا، لم يكن الأمر بالمفاجئ، حينما قررت الولايات المتحدة الأمريكية احتلال العراق خلال فترة حكم بوش الابن، رغم أن الزعم بأن العراق يمتلك أسلحة نووية ثبت عدم صحته.
أما بخصوص الشرق الأوسط، فنحن نرى الآن ما يحدث في الشرق الأوسط، وما أصاب عددا من دوله من خراب وتدمير. فقد تمت تصفية صدام حسين، معمر القذافي، والآن تجري محاولة تصفية النظام السوري، وأتصور أن للخطة بقية، ستكشفها الأيام القادمة، ولا نستبعد إيران بالطبع التي وضعها بوش الابن من قبل في سياق "محور الشر"، وأكد الكلام هنري كيسينجر في معرض حديثه عن نظام العالم الجديد الذي تخطط الولايات المتحدة لفرضه.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)