بات من المسلم به مفصلية الأدوار الكبيرة التي لعبتها، ومازالت تلعبها، وسائل التواصل الاجتماعي من خلال أنماط الاتصال الجماهيري الجديدة التي حملتها معها، وتأثيرها في صناعة الرأي العام وتحديد اتجاهاته، على حساب الدور الذي كانت تلعبه وسائل الإعلام التقليدية، المقروءة والمسموعة والمرئية، واستطاعت الفئات الشابة تحويل وسائل التواصل الاجتماعي إلى منصات للحوار وتبادل الآراء لخلق فضاء عام متحرر من القيود التي كانت مفروضة على المنتج الإعلامي، أو بتعبير آخر إنهاء مهمة "حارس البوابة" التي كان تقوم بها وسائل الإعلام التقليدي.
فقد وفرت وسائل التواصل الاجتماعي، مثل "فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب" و"الفايبر" و"غوغول"، نقل المعلومات بسرعة وتبادلها بسهولة وتفاعل الناس معها، بفضل تطبيقات تكنولوجية حديثة في مجال التنظيم والاتصال عبر الانترنت، نقلت الإعلام إلى آفاق غير مسبوقة، من الصعب ضبطها والرقابة عليها، في "شبكة عنكبوتية" عملاقة، وشكّلت القاطرة لما صار يعرف بـ"النيو ميديا"، والتي تعرّف بأنها "أنواع الإعلام الرقمي، الذي يقدم في شكل رقمي وتفاعلي، ويعتمد على اندماج النص والصورة والفيديو والصوت, فضلا عن استخدام الكومبيوتر كآلية رئيسة له في عملية الإنتاج والعرض, أما التفاعلية فهي تمثل الفارق الرئيس الذي يميزه وهي أهم سماته".
المجتمعات العربية أفاقت على واقع جديد مع انطلاقة "ثورة الياسمين" في تونس، التي لعبت فيها وسائل التواصل الاجتماعي دور كبيراً في التحشيد للحراك الشعبي وتعاظمه، ولعبت الدور نفسه في ثورة (25 يناير) والأحداث التي تلتها في مصر، وفي الحراكات الشعبية المعارضة في اليمن وليبيا، والعديد من البلدان العربية الأخرى في السنوات الخمسة الماضية، وأثبتت مؤخراً قدراتها الهائلة في تركيا، بتحريك الشارع التركي ضد محاولة الانقلاب الفاشلة. وأصبح يتم تناول القضايا السياسية بجرأة غير مسبوقة، حتى في مجتمعات تصنف كمجتمعات تقليدية ومحافظة، مثل مجتمعات بلدان الخليج العربي، وانتشرت ظاهرة المواطن الصحفي، وشهود العيان، على منصات التواصل الاجتماعي، لكنها تظل محلَّ جدل لجهة إيجابياتها وسلبياتها، فهي سلاح ذو حدين.
كان لاضمحلال هوامش الحوار السياسي في وسائل الإعلام التقليدية، وما قاد إليه ذلك من إحباط للشارع، الدور الرئيس في اتجاه الجمهور نحو ما تقدمة "النيو ميديا" كمصدر للأخبار، التي ينظر إليها كمساحة للتعبير عن مشاكل وهموم الفئات المهمشة، وكجزء لا يتجزأ من أدوات المجتمع المدني، وكرمز لتقدم البشرية بفضل تطبيقات الطفرة التكنولوجية والثورة الرقمية، لإشباع حاجة التواصل الاجتماعي.
كما تعاني وسائل التواصل الاجتماعي من فوضى فكرية وثقافية هائلة، وتفتقر إلى الوضوح فيما يخص تصنيفها في خانة وسائل "الإعلام البديل" أو "النيو ميديا"، ومن الخطأ اعتبار وسائل التواصل الاجتماعي أساساً للتغير في المجتمعات، لاسيما في مجتمعات مازالت تعاني من عدم تبلور بنية المجتمع المدني في الواقع والحياة اليومية، وهو ما عليه الحال في المجتمعات العربية بشكل متفاوت، وبعض تلك المجتمعات غرقت في دوامة انهيار الدولة الوطنية وتفكك البنية الاجتماعية وبروز مظاهر العنف والتطرف والإرهاب التي تهدد الدولة والمجتمع ككل.
وإذا كان لا يمكن فصل تراجع الثقة بالإعلام التقليدي عن الوضع السياسي والمؤسساتي المتردي في العديد من البلدان العربية، فإنه لا يمكن استعادة الثقة بـ(صاحبة الجلالة)، التي هزت عرشها وسائل التواصل الاجتماعي، إلا بتطوير الإعلام التقليدي وامتلاكه للمهنية والشفافية والجاذبية، وتوسيع هوامش الحوار والتفاعل مع مختلف الفئات المجتمعية، وخاصة المهمشة منها، وهذا يحتاج إلى بيئة سياسية مواتية تؤمن بالتغيير والتطور وتعمل على تحقيقه، لتأسيس خطاب سياسي جديد، وبناء مؤسسات المجتمع المدني وتمكينها، وعندها سيكون لوسائل التواصل الاجتماعي الدور المطلوب في تنمية الوعي السياسي وعملية التغيير.
(المقال يعبر عن رأي صاحبه)