ولا يمكن أن يتوقف ذلك إلا بدفع ثمن السلم بدءاً من تلبية مستحقات المصالحة الوطنية، وشرطها تقديم المصلحة العامة على الحسابات الفئوية، وما يستخلص من التجربة اللبنانية يجب أن يستفاد منه في البحث عن مخارج للأزمات في سورية واليمن والعراق وليبيا والأزمات الأخرى الشبيهة لها.
رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، تساءل في الذكرى الخامسة عشرة للمصالحة المسيحية — الدرزية في جبل لبنان عن "أثمان الحرب والسلم"، وأضاف في احتفال أقيم في بلدة المختارة، بمناسبة تدشين ترميم كنيسة تعود إلى القرن التاسع عشر قائلا: "أثبتت كل التجارب السياسية والعسكرية أن أي أثمان تسدد في سبيل السلم أرخص بكثير من أثمان الحرب والدمار. وشدّد جنبلاط في كلمته على أن تخطي الإرهاب الحدود بين الدول يملي على اللبنانيين إحياء مناخ المصالحة والتقارب بينهم، وإرسال رسالة إلى العالم أن لبنان يقدم مثالاً فريداً في الحفاظ على حماية التعددية والتنوع.
البطريرك الماروني، الكاردينال بشارة الراعي، ألقى كملته في المناسبة ذاتها، تقاطعت مع ما قاله رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، واعتبر أن "مبادرة انتخاب رئيس للجمهورية تحتاج إلى رجالات دولة كبار من هذا وذاك من الفرقاء، يدركون أن الحلّ يأتي من الداخل، بشجاعة التجرّد من المصلحة الذاتية… ومن هذا المنطلق، يمكن الذهاب إلى مصالحة وطنية تضع يدها على الجرح الحقيقي في الحوار، وتحمي دولة لبنان من الانهيار".. ملاحظات في الصميم لا تخص الحالة اللبنانية فقط، بل يمكن تعميمها على الأزمات الساخنة، في سورية واليمن والعراق وليبيا، وغيرها من الأزمات التي تعاني منها بلدان عربية أخرى وأن اتخذت أشكالاً ومستويات أخرى أقل تعقيداً وعنفاً.
فالمسؤولية الأخلاقية والوطنية تقتضي أن يدرك الجميع أن عليهم امتلاك الشجاعة لتقديم الأثمان التي تتطلبها التسويات السياسية، وأن ثمن السلم مهما كان كبيراً يبقى أقل من ثمن الحرب، وأنه لا بديل عنه في نهاية المطاف، وأنه كلّما تأخرت الحلول السياسية سيكون الثمن أكبر والمشاكل أكثر تعقيداُ، فاللبنانيون بعد أكثر من ربع قرن من نهاية الحر الأهلية يرزحون تحت ثقل موروثها في المعادلات السياسية والحزبية، ولم يستطيعوا التخلص من التأثيرات الخارجية، وتأخر اللبنانيين في الإصلاحات المطلوبة زاد من موروث الحرب ووطأة التدخل الخارجي.
شاعت في سنوات الحرب الأهلية اللبنانية أوهام الحلول العسكرية، وغرقت في هذا المستنقع غالبية القوى السياسية والحزبية اللبنانية، وتحوّل لبنان إلى ساحة مفتوحة للحروب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية متصارعة، وجرت عسكرة المجتمع في خنادق أمراء الطوائف، وكان ثمنها أكثر من 150 ألف قتل و300 ألف جريح، وتهجير أكثر من مليون إلى خارج البلاد، وفرز ديني ومناطقي أدى إلى نزوح 600 ألف شخص من بلداتهم وقراهم، أي ما يعادل نسبة 22% من عدد سكان لبنان، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية والخدمية.
وفي الذكرى الخامسة والعشرين لانتهاء الحرب الأهلية مازال اللبنانيون يدفعون أثماناً باهظة لها، لم يكن قدرهم أن يدفعوها لو أن النخب السياسية والحزبية في ستينيات ومطلع سبعينيات القرن الماضي عالجت الأزمة البنيوية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، قبل أن تنفجر الحرب الأهلية عام 1975، وكان من الممكن تخفيف الأثمان اللاحقة لو تم تسديد ثمن السلم.
اللبنانيون يتساءلون اليوم عن "أثمان السلم والحرب".. تساؤل يجب أن يطرحه أيضاً السوريون واليمنيون والعراقيون والليبيون على أنفسهم، وأن يستفيدوا مما يستخلص من التجربة اللبنانية في البحث عن مخارج وحلول للأزمات.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)