اليوم، وبعد قرون من مشاركة المغرب في صياغة جزء من حضارة أوروبا، ينبهر فصيل من المغاربة، بإسرائيل كدولة حضارة وثقافة، حسب زعمهم، فيسافر وفد مغربي، يضم 16 شخصا، بينهم سياسيين واعلاميين وأكاديميين، في زيارة إلى إسرائيل، تستمر أكثر من أسبوع، وتنتهي الاثنين المقبل، ليتجولوا هنا فاتحين أفواههم إعجاباً بما لم يروه في بلادهم، التي شبعت من ثقافتها الأصيلة، فبدأت البحث عن الثقافات المسروقة.
الوفد — الذي كشف أمره رئيسه عبد الله الفرياضي، في مقابلة له مع موقع "الجريدة 24" المغربي، تتراوح الأنشطة التي سيطالعها لـ"الاستفادة منها" في إسرائيل، بين الأنشطة السياسية والثقافية والتربوية، وكذا من أجل إجراء لقاءات بشخصيات إسرائيلية نافذة، بهدف رفع مستويات التنسيق بشأن الترافع الإيجابي بخصوص القضايا الاستراتيجية للمغرب"، حسب تعبير الفرياضي.
ويوضح رئيس الوفد أن أحد أهداف الزيارة، هو المشاركة في فعاليات أيام دراسية، حول الهولوكوست، من أجل الوقوف على حجم المأساة التي تعرض لها اليهود عبر العالم جراء الممارسات النازية، ولتبيان الدور الطلائعي الذي لعبه الملك الراحل محمد الخامس لحماية اليهود من قانون نظام فيشي الفرنسي الاستعماري المتواطئ مع هتلر"، وهو العنوان الذي صاغوه من أجل إرضاء مضيفيهم الإسرائيليين.
وحسب وصف موقع قناة العالم، فإن رئيس الوفد لم يخف إعجابه بنموذج الاحتلال الإسرائيلي في ترويجه للهولوكوست، حيث يقول أن "الزيارة تهدف أيضا إلى الوقوف على أهمية التوظيف الإسرائيلي لهذا الحدث التاريخي المأساوي، في البرامج التعليمية كنموذج مثالي يمكن الاقتداء به في تعميق الروح الوطنية لدى الناشئة".
وتوضح القناة أن رئيس الوفد في رده على سؤال، حول تزامن زيارة الوفد الذي يقوده مع النكبة العربية التي حلّت بالشعب الفلسطيني، قال "مصلحة المغرب أولى من أي التزام أيديولوجي، قومي أو ديني"، مؤكداً أن أحد أهم أهداف الزيارة هو"الرد على الموقف الفلسطيني المناوئ للمغرب في القمة الأفريقية العربية، التي عقدت قبل أيام في العاصمة الغينية مالابو". في إشارة إلى انسحاب ثماني دول عربية اشغال القمة احتجاجا على مشاركة الصحراء الغربية كدولة كاملة العضوية في الاتحاد الأفريقي الى جانب باقي الدول الافريقية.
هل ترون حجم الفضيحة؟ المغرب يتخلى عن القضية الفلسطينية علناً، ويعلن أن مصلحته أهم من أي التزام أيديولوجي قومي أو ديني، وأن الزيارة إلى إسرائيل والانبهار بحضارتها وبرامجها التعليمية والثقافية والسياسية والتربوية، مجرد رد على الموقف الفلسطيني المضاد للمغرب في القمة الأفريقية العربية، حيث أن فلسطين لم تنسحب من القمة، لإرضاء المملكة.
الوفد المغربي الذي يزور إسرائيل حاليا، يضم مجموعة من الباحثين، مثل عبد الرحيم شهيبي، الذي كان قد دعا سنة 2013 إلى تدريس الهولوكوست في المغرب، وبوبكر أوتعديت، وهوالناشط الأمازيغي الذي سبق له زيارة إسرائيل سنة 2009، وأكد "أن أورشاليم — القدس هي عاصمة إسرائيل"، وعبد الله الفرياضي وهو سياسي محلي مغمور بمدينة كليميم، وكذا الصحفي بالقناة الأمازيغية المغربية عبد النبي ادسالم، وآخرين يعملون بمختلف وسائل الإعلام المغربية، وكذا طلبة جامعيين وأساتذة في التعليم الثانوي والجامعي.
أخطر ما في الزيارة — بغض النظر عن موجة الانبهار والانهيار العاطفي التي أصابت قيادات الوفد من الحضارة العظيمة في إسرائيل- هو اللقاءات التي تم الترتيب لها مع مسؤولين في وزارة الخارجية الإسرائيلية، والتي تهدف — حسبما أعلن
بالطبع لم تعلن الحكومة المغربية أو وزارة الخارجية ما إذا كان الوفد قد حصل على موافقة مسبقة بزيارة إسرائيل أم لا، ولكن طبيعة دولة المغرب كمملكة، وطبيعة الحكومة والمناخ السياسي هناك، وكذلك حجم الوفد وتنويعته وتركيبته، كلها أمور تؤكد أنه حصل بالفعل على موافقة الحكومة — وربما البلاط- على الزيارة، ما يجعلها تتخذ طابعاً شبه رسمي.
وما يزيد على ذلك ويؤكد أيضا أن الزيارة رسمية أو تكاد، أن أجندة زيارة الوفد تتضمن لقاءات مع مؤسسات رسمية إسرائيلية كالكنيست أو وزارة الخارجية الإسرائيلية، وهي لقاءات لا يمكن أن تتم دون موافقة السلطات العليا في البلاد، أوحتى تحميل الوفد رسائل حول التطبيع الرسمي مع الكيان الإسرائيلي، بجانب تسهيل الحصول على التأشيرات قبل الانطلاق من مطار مغربي صوب إسرائيل.
ندرك جيداً أهمية أن تبحث كل دولة عن مصالحها، ولكننا ندرك أكثر أن هناك مجموعة من الثوابت والمبادئ لا يجب أن نتخطاها إذا أردنا لدولنا أن تنهض، أولها أننا لا نتخلى عن "لحمنا ودمنا"، الذي يراق كل يوم في فلسطين بأياد إسرائيلية، لمجرد الرغبة في رد موقف سياسي في محفل دولي، ربما تكون له حسابات مختلفة.
كثير من الدول العربية تبحث عن العلاقات مع إسرائيل، فالأردن بدأت هذه العلاقات منذ عشرات السنين، ووضعتها مصر في قالب رسمي، بعد توقيع الرئيس الراحل محمد أنور السادات على اتفاقية كامب ديفيد، وما زالت علاقات قطر مع إسرائيل — سراً — في أفضل مستوياتها، كما أن المملكة العربية السعودية بدأت تنقل العلاقات مع إسرائيل من حالة الخفاء إلى حالة الجهر، وربما نشهد قريباً افتتاحاً للسفارة الإسرائيلية في الرياض.
ولكن المملكة المغربية حالتها مختلفة، فلا هي أقرت علاقات رسمية، ولا هي وجدت مصالحها فجأة مع إسرائيل، ولا هي أيضا مستفيدة من تل أبيب في شيء. فالوفد يتصرف بمنطق: نغيظ الفلسطينيين، وهو منطق طفولي، لا يستحق في الأساس الالتفات له، لولا ما يعلنه الوفد من أنه يؤسس لعلاقات طبيعية، وهو ما ينقل الأمر إلى خانة تواطؤ الدولة، وتورطها في عملية "الإغاظة".
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)



