وذكر الكاتب أنه "حيث بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تستشعر بداية الصعود الصيني في الشرق الأقصى، عمدت إلى إنهاء المخاطر العالقة التي كانت تعمل على إدارتها في الشرق الأوسط تمهيداً للتوجه شرقاً، كحال الغزو الأمريكي للعراق وإنهاء عملية إدارة الصراع العراقي الإيراني، وأصبحت واشنطن تسعى لبناء استراتيجية جديدة بعد غزو العراق تهدف بالدرجة الأولى إلى تأمين "الكيان الإسرائيلي"، وتحويل الصراع في الشرق الأوسط إلى صراع بارد يتسم بعدم المواجهة، تمهيداً لنقل الثقل الأمريكي إلى أقصى الشرق باتجاه بحري الصين الجنوبي والشرقي، وكانت أولى الخطوات العملية لهذه الاستراتيجية هي إعلان أوباما عزم أمريكا الانسحاب من العراق وأفغانستان، أي أننا نتحدث عن استراتيجية أولى بدأت مع مطلع الألفية الثانية وتستمر على أقل تقدير لعقدين من الزمن كمجال تطبيقي وعملي، وهي طبيعة الاستراتيجيات الأمريكية عموماً حيث أنها تمتد لفترات طويلة من الزمن وتعمل كمولد لحزمة السياسات الخارجية التي تصب جميعها في الحفاظ على الهيمنة الأمريكية الدولية، بالتالي عملت الولايات المتحدة الأمريكية على تحديد العوامل والشروط الواجب تحقيقها في العالم العربي لتحقيق الانسحاب الأمريكي الآمن بما يخدم تطلعات أمنها القومي وأهدافها الاستراتيجية وأهم هذه العوامل:
أولاً: خلق بيئة سياسية مستقرة في الشرق الأوسط وتبريد الصراعات وإدارتها.
ثانياً: تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة معدلات النمو والتطور، بما يخدم استقرار المجتمعات، ويستبق أي ثورات شعبية حقيقية.
ثالثا: ضمان تبعية دول المنطقة العربية المطلقة لواشنطن خاصة بعد فتح أبواب التنمية والاستقرار عليها، بحيث لا تستخدم ضد المصالح الأمريكية بحيث توفر على واشنطن تكلفة وعناء الإشراف المباشر.
رابعاً: ضمان الأمن القومي لـ"الكيان الإسرائيلي" من خلال تحويل العداء بين تل أبيب والعواصم العربية إلى علاقات تحالف، ومصالح متبادلة وحل الصراع العربي-الإسرائيلي عن طريق دعم مبادرة حل الدولتين.
هذه العوامل الأربع اجتمعت في حكومة حزب العدالة والتنمية التركي كنموذجاً فريداً من نوعه، خاصة أن السياسة الخارجية التركية كانت تعتمد مبدأ صفر مشاكل مع دول الجوار، أي أن نموذج الإسلام السياسي التركي شكل المركب الحكومي السحري بالنسبة للمشروع الأمريكي، ليطلق أوباما هذا المشروع بخطبته في جامعة القاهرة 4/06/2009، بعبارته الشهيرة "سنعيد نظرتنا إلى الإسلام والمسلمين"، وكانت أفضل تسمية ممكن أن تعبر عن المشروع الأمريكي هي تسمية "الربيع العربي"، وليس من سبيل المصادفة الجدولة الزمنية للانسحاب الأمريكي من العراق بعام 2011 كسياق متصل ومتزامن مع مشروع "الربيع العربي"، حيث أسس هذا المشروع للتوجه الأمريكي إلى الشرق الأقصى واستنساخ المركب الحكومي التركي في دول المنطقة العربية.
وبالنسبة لحركة "الربيع العربي" و"الثورات" المضادة، رأى الكاتب أن "شرارة الثورات الأمريكية أضرمت في ذلك الجسد الغض على تبعاتها، البوعزيزي يضرم النار في نفسه ليشعل معه احتجاجات أطاحت بالنظام التونسي، (ليموت بعد شهر تقريباً متأثراً بحروقه حسب البيان الرسمي)، وشكلت موجة منظمة في شمال أفريقيا، كثفت بدعم وتخطيط أمريكي في ليبيا ومصر وصولاً إلى سورية، وخمّدت في الدول المرتبطة بواشنطن سابقاً كالمغرب ذات العلاقات الاستثنائية مع واشنطن، كونها أول دولة في العالم اعترفت باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، وفيها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، والنتيجة كانت سيطرة الإسلام السياسي على حكومات هذه الدول، و"الربيع العربي" يطبق بحذافيره على قدم وساق حتى عام 2013.
وتابع الكاتب: "انقلب المشهد كلياً وسرعان ما استشعر البيت الأبيض الفشل الخطير في حسابات الاستراتيجية الأمريكية، حيث حول مشروع "الربيع العربي" تركيا من دولة مرتبطة ارتباطاً عضوياً بأمريكا تسعى واشنطن لاستنساخها، إلى دولة ذات طموحات جيوبولتيكية تاريخيةً، حيث بدأت تركيا بقيادة الحراك من المبدأ الإخواني بالشراكة مع قطر على حساب الدور الأمريكي الأساسي، وسعت إلى استغلال الجهود والخطط الأمريكية لإطلاق مشروع عودة الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فاحتكرت المعارضة السورية تحت أسم مجلس اسطنبول و"الجيش الحر"، وسارعت إلى فتح العلاقات مع مصر بقيادة حيث كان مرسي رئيسا آنذاك، والخطر الأكبر كان بالنسبة لواشنطن هو تواصل إيران مع مصر برئاسة مرسي بالرغم من اختلاف اللون الديني، ولكن التوافق في شكل النظام السياسي كان أكثر جاذبية من الاختلاف في الطائفة، إضافة إلى أن إيران ليست لديها تحفظات على الأخوان المسلمين إلا في ما يخص مواقف مرحلية متعارضة في بعض الأحيان، وهو ما دفع واشنطن إلى إدراك المخاطر الكبرى التي بدأت بالظهور، تمدد إيراني بدلاً من تطويقه بأنظمة معادية وخنقه بذريعة الملف النووي، واستيقاظ الحس الإمبراطوري التركي".
وأردف الكاتب: "جاء بعد ذلك، حتمية الخيار أمام البيت الأبيض وهو الإطاحة السريعة بالأنظمة "الإخوانية" عن طريق ثورات مضادة تقطع يد كل من إيران وتركيا في المنطقة، لتستبدل السلطة في تونس، ويظهر المشير خليفة حفتر في ليبيا، ويصل الرئيس السيسي إلى الرئاسة في مصر، وتنقلب التسوية في اليمن ضد "الحوثيين"، أي أن واشنطن أصبحت تركز كل التركيز لإعادة الوضع إلى ما كان عليه، إلى درجة إعادة طرح أسم سيف الإسلام القذافي في ليبيا على أنه الحل!.
وتساءل الكاتب: "لكن ماذا عن الدول التي لم تسقط بعد كسورية والجزائر؟"، وكتب "من حظ الشعب الجزائري أنه تعقل قليلاً لحين الاكتشاف الأمريكي للمخاطر الاستراتيجية لـ"الربيع العربي"، ودعمها لـ"ثورات" مضادة، حيث بقيت الجزائر في مأمن من كل المشروع والمشروع المضاد، أما في سورية فتحولت إلى ساحة كبيرة لتصادم كل المشاريع وبدأ الانشقاق الأمريكي-الخليجي من جهة والتركي الإيراني من جهة أخرى يرتسم على الخارطة السورية.
وأكد الكاتب أن "النموذج السوري كان مقبرة الاستراتيجية الأمريكية (ثورتين ونظام قائم)، فمن وجهة نظره "بدت للوهلة الأولى أخطاء البيت الأبيض في تطبيق الاستراتيجية الأمريكية قابلة للتعديل والاحتواء، ولكن فقط في حال استثناء أهم وأخطر نموذج في المنطقة العربية، وهو النموذج السوري، حيث "الثورة" الأولى موجودة ولم تنجح بعد (غرفة عمليات "الموم" في تركيا)، و"الثورة" المضادة بدأت ولم تصل إلى نتائج أيضاً (غرفة عمليات "الموك" في الأردن)، والنظام السياسي السوري لا يزال قائماً".
وبرأي الكاتب، كان هناك "خطأ استخباراتي استراتيجي دولي أدى إلى ولادة كيان جديد يلتهم الجميع، ويتوسع في الفراغات السياسية والاستخباراتية المتضاربة، لتهلع أمريكا على الفور لاحتوائه بتشكيل التحالف الستيني الدولي، مستثنيتاً تركيا الدولة العضو في حلف الناتو بشكل متعمد، حيث لجأ التحالف للاستثمار بـ"داعش" من خلال رسم خطوط نار جغرافية له، وتوجيهه ككيان حاجز ضد التمدد التركي، كنوع من أنواع إدارة الصراع، ودفعه إلى بلع "النصرة" بعد ولائها لتركيا، ورافقت هذه الإجراءات إعلان التحالف أن محاربة "داعش" ستستمر لعقود".
أما عن قوة وجرأة موسكو، قال الكاتب: "تيقنت روسيا سريعاً أنها معنية بحصة خطيرة من الاستراتيجية الأمريكية والمشروع الأمريكي حينما بدأت "الثورة" في أوكرانيا 18/2/2014 بالتزامن مع تجديد عقد الآجار الروسي للميناء البحري في القرم (سيفاستوبول) المنفذ الوحيد لروسيا على البحر الأسود (كمياه دافئة)، ما دفعها إلى اتخاذ قرار استعادة القرم وضمها، ونقل المواجهة بعيداً عن الحدود الروسية، وهو ما يستوجب التثبيت البحري في شرق المتوسط في القاعدة السوفيتية القديمة طرطوس، وكانت محاربة "داعش" وتراجع سيطرة الدولة السورية على أراضيها أكبر نقطة للالتقاء الروسي-السوري، جعلت طلب دمشق من موسكو التدخل رسمياً 30/9/2015 المنفذ الوحيد الذي يحافظ على وجود كلاهما، هذا التدخل صدم واشنطن بشكل كبير، فمن غير المتوقع أن تخرق موسكو مخاوفها بعد تجربة الخسارة المريرة للجيش الأحمر على يد طالبان في أفغانستان، وسرعان ما بدأت تظهر فعالية الضربات الروسية ونجاح العمليات البرية للجيش السوري والقوات الرديفة في مكافحة الإرهاب، بما لا يبقي لواشنطن خياراً آخر سوى القضاء الفعلي على "داعش"، واستبداله بتنظيم آخر يلعب نفس الدور في مواجهة تركيا، ويكون القوة البرية في عمليات التحالف، بالتالي لم يكن هناك خيار أفضل من الأكراد الانفصاليين في الشمال السوري.
وبالنسبة لاستراتيجية واشنطن الثانية 2018، كتب الباحث النشواتي "هذه المتغيرات الصادمة في المنطقة، بالإضافة للمتغيرات الدولية الأخرى، جعلت من تصحيح الاستراتيجية الأولى أمراً مستحيلاً، فتركيا أصبحت أقرب إلى الثقل الأوراسي منه للأطلسي، ومشروع إعادة الأمبراطورية التركية لم يدفن كما يجب، بالرغم من عزل قطر نهائياً عن دول الخليج ومحاصرتها، والتي لم تؤدي إلا لتثبيت الوجود التركي في الخليج، والسعي نحو إحياء وجودها في البحر الأحمر، إضافة إلى التناغم التركي الإيراني في العديد من الملفات، بالتالي أصبحت واشنطن مجبرة على رمي أوراق الاسترتيجية الأولى الممزوجة بدماء الشعوب وآهاتهم في سلة المهملات، وإعادة بناء استراتيجيتها الجديدة التي تهدف في شقها الرئيسي إلى مواجهة التمدد الأوراسي الجديد وتحييد تركيا، مع تحجيم أحلامها، وما احتجاجات إيران بالرغم من الأبعاد الجيواستراتيجية إلا عرض تجريبي لما ينتظر فعاليات موسكو الكبرى هذا العام (الانتخابات الرئاسية، كأس العالم)، وقد تكون هذه الفرصة الأخيرة للدول المستهدفة بأن تبني استراتيجية واقعية خاصة بها.