أخيراً وبعد طول انتظار، أصدرت لجنة شيلكوت، الخاصة بالتحقيق في الحرب على العراق 2003، تقريراً يلخص ما توصلت إليه خلال سبع سنوات من العمل، لكن الخلاصة الرئيسية في التقرير لم تتعد إدانة رمزية لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير، الذي تحالف مع الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الابن، لغزو العراق واحتلاله والإطاحة بنظام حكم الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين.
لجنة التحقيق التي سميت على اسم رئيسها، السير جون شيلكوت، شكّلها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، غوردن براون، الذي خلف بلير بعد استقالته، واعتمدت على عشرات الشهادات وأكثر من 150 ألف وثيقة، صبت معظمها في سياق إدانة بلير، ووزير خارجيته جاك سترو، ومدير المخابرات البريطانية إبان غزة العراق، ريتشارد ديرلوف، وعدد آخر من المسؤولين البريطانيين السابقين الذين شاركوا في قرار الحرب على العراق، غير أن التقرير لم يذهب إلى اعتبار أن قرار بلير وحكومته بالمشاركة في الحرب لم يكن قانونياً، بل اكتفى، كما جاء في التلخيص الذي قدمه رئيسها، بالقول: "انتهينا إلى أن الظروف التي تقرر خلالها أن هناك أساساً قانونياً للتحرك العسكري لم تكن مرضية على الإطلاق".
رغم كل ذلك، لم يستطع واضعو التقرير تجاهل الأدلة الدامغة بأن بلير كذب بشأن الحجج التي قدمها لتبرير مشاركة بريطانيا في غزو العراق واحتلاله، فقد أكد واضعو التقرير أن بلير غير حجته للحرب من التركيز على أكذوبة "مخزونات العراق الهائلة من الأسلحة الكيماوية والجرثومية غير المشروعة"، وعندما انكشفت الكذبة استدار خطاب بلير وفريقه نحو الزعم بأن سبب المشاركة بالحرب "نية صدام للحصول على هذه الأسلحة وانتهاكه لقرارات الأمم المتحدة"، وفي سبيل ذلك قدِّمت تقارير ومعلومات استخباراتية مضللة.
وأقرت اللجنة أيضاً بأن بلير استند إلى فريق متكامل، من السياسيين والعسكريين ورجال المخابرات والإعلاميين والخبراء في القانون، لاختلاق وتلفيق مبررات لغزو العراق واحتلاله، حيث كشف رئيس اللجنة في المؤتمر الصحفي، الذي أُعلِنت فيه خلاصة التقرير، أنه " قبل أيام من الغزو طلب أكبر محام في الحكومة من بلير أن يؤكد أن العراق ارتكب تجاوزات لقرار مجلس الأمن الدولي مما سيبرر الحرب".
بلير شخصياً اعترف أمام لجنة شيلكوت بأن الحرب على العراق بنيت على تلفيق مفضوح، وعاد وأكد على اعترافه في تصريح للصحفيين بعد صدور تقرير اللجنة بالقول: "اتضح أن تقييمات المخابرات وقت الذهاب للحرب كانت خاطئة. واتضح بعد ذلك أن العواقب أكثر عدائية وامتدادا ودموية مما نتخيل"، بيد أنه رفض تحمل أي نوع من أنواع المسؤولية عما حلَّ بالعراق والمنطقة جراء الحرب، بل أصر على أن قرار إسقاط نظام الحكم السابق في العراق كان قراراً صائباً، وزعم بأنه لم يكن لديه "خيار آخر لتأجيل الحرب على العراق"، وظل خلال السنوات الماضية مطمئناً إلى أن اللجنة لن تخرج بإدانة له، لأنه يعرف بخبرته طبيعة تعاطي الأنظمة السياسية الغربية مع مثل هكذا قضايا.
تضمن التقرير كاملاً والوثائق الملحقة به ما يقارب 3 ملايين كلمة، يمكن أن تستخلص منه الأجيال القادمة دليلاً على زيف المنظومات السياسية الغربية، أما الضحايا من العراقيين فلا عزاء لهم، فقد نجا بلير وفريقه من الإدانة، مثلما نجا جورج بوش الأب والابن سابقاً، وما هي إلا أسابيع حتى يخفت الاهتمام الإعلامي والسياسي بالتقرير، وتطوي بريطانيا الرسمية هذا الملف، لكن التاريخ لن يطويه، وسيبقى دم الضحايا وعذابات العراقيين ديناً في رقبة بلير وبوش الابن وفريقهما ومن ساعدوهم على الإفلات من العقاب.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)