هذا كان الفارق بين موقف مصر الداعم لمشروع القرار الروسي في مجلس الأمن، وبين موقف المملكة العربية السعودية الداعم لأي شيء يقوله الأمريكان، أو بمعنى آخر، الفارق بين أن تفكر ثم تصوت، وبين أن تغمض عينيك ويُملى عليك قرارك.
ووصلت الأزمة إلى محاولة فرض حصار اقتصادي، من خلال وقف تصدير النفط السعودي إلى مصر — وهو بالمناسبة مدفوع الثمن وليس منحة من المملكة- اعتقاداً بأن مصر — صاحبة العلاقات الممتدة شرقاً وغرباً- سيصيبها العجز وتضربها الذلة فتهرع إلى التخلي عن مواقفها السياسية، ولكن القاهرة فاجأت الجميع بالإعلان عن وصول شحنات من البترول قادمة من دول أخرى.
وحسب الخبير الاقتصادي ناصر يوسف، فإن المملكة العربية السعودية عندما قررت أن تقطع شركتها البترولية الأبرز "أرامكو" النفط عن مصر خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، لم تكن تريد من وراء ذلك إلا "قرص أذن" المسؤولين المصريين، ولكن استيراد مصر لشحنة البترول من دول أخرى حليفة لها، دفع المملكة إلى إطلاق أبواقها في الإعلام الخليجي، ممن يطالبون الآن دول الخليج بأن يتخذوا ضد مصر إجراءات عقابية مماثلة.
وبمناسبة الحديث عن دول الخليج، كانت المفاجأة أن بعض الدول الخليجية، بعد موقف السعودية من مصر، عرضت على القاهرة اتفاقيات لبيع النفط لها بأسعار مخفضة وبآجال طويلة المدى، بحيث تتمكن مصر من تخطي عقبتها الحالية وأيضاً تحقيق طفرة مستقبلية، وهو نفس الطرح الذي جاء للجمهورية المصرية من دول غربية، بعضها تحاول السعودية التقرب منها.
وتستهدف السعودية — حسب يوسف- توصيل رسالة لمصر تعبر فيها عن غضبها من قرار تصويت مصر لصالح مشروع القرار الروسي في مجلس الأمن الدولي بشأن الأزمة السورية، إلى جانب الصين وفنزويلا، والذي دعا إلى الاسترشاد بالاتفاق الأمريكي الروسي لإيصال المساعدات للمناطق المحاصرة، ووقف الأعمال العدائية فورا، وفصل قوات المعارضة المعتدلة عن "جبهة فتح الشام" (النصرة سابقا).
كانت هذه هي رؤية الخبير الاقتصادي ناصر يوسف، والتي أتفق معها تماما، ولكن هل توقف الأمر عند هذا الحد؟؟ بالتأكيد لا، فما زال هناك الفخ الذي دائما ما تسقط فيه الدول عندما تتجاهله، وهو سلاح "التواصل الاجتماعي"، الذي أصبح ساحة حرب الآن بين المصريين والسعوديين، الذين انحاز كل منهم لقضية بلده، في معركة حامية طرفاها يدافعان إما عن "رز السعودية" أو عن كرامة مصر "أم الوطن العربي".
خطر مواقع التواصل الاجتماعي — والكلام للمحلل السياسي محمد مصطفى- لا يتوقف عن المعارك الكلامية بين أبناء الشعبين، ولكنه يمثل خطورة على المملكة بشكل كبير، لأنه يفضح ممارساتها داخل سوريا واليمن أولاً بأول، فقد أصبحت الحرب على الهواء مباشرة، تنقل ويلاتها لحظة بلحظة عبر كلمات وصور ومقاطع فيديو وغيرها من الوسائل، وبالتالي أصبح الجميع يرون بأعينهم الشواهد على الجرائم التي ترتكب في اليمن باسم "دعم الشرعية"، والدماء التي تسيل في سوريا باسم "نصرة الإسلام".
المملكة — باختصار- تسقط في بئر سحيقة، في قاعها يرقد كل من حالفوا الولايات المتحدة الأمريكية يوماً قبل أن تنقلب عليهم، وهو بالمناسبة أمر وارد الحدوث، ولكن الأزمة أن السعودية لم تتعلم من الدرس الأول، فحرب سوريا كانت كافية لتدرك السعودية أن واشنطن ورطتها في مستنقع ما كان لها أن تدخله، فرغم أن الجيش السعودي لم يدخل سوريا، فالأموال الداعمة للمنظمات الإرهابية هناك أصبحت وبالاً يطارد المملكة، ولولا أنها خاطرت بهذه الأموال، ما كانت لتتسول الدعم الآن من الكيانات الكبرى.
الآن، تعجز السعودية عن اتخاذ قرار يخالف عقيدة الولايات المتحدة السياسية، في نفس الوقت الذي يسن الأمريكان أنيابهم، ويجهزون قانونا جديدا، يطيح بحلم السعودية في تحقيق استقرار اقتصادي من جديد، ويأخذ من أموالها تعويضات — غير مستحقة- لضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، تزيد من "الحفرة" التي توسعها منذ سنوات لتسقط فيها المملكة.
والآن أيضاً، تجهز أمريكا قانوناً آخر يمنع بيع الأسلحة للمملكة، على خلفية القصف الأخير لمجلس عزاء في اليمن، في حرب دخلتها السعودية منذ البداية بتوصية أمريكية.
مصر أدركت اللعبة جيداً، فهمت أن الولايات المتحدة تنفذ مخطط تقسيم الشرق الأوسط والدول العربية كما وضعه الغربيون الأوائل، للاستيلاء على هذا الجزء من العالم، فخرجت من الملعب مبكراً، وأحاطت نفسها بسياج "جديد" من العلاقات الدولية — المهتزة أحيانا ولكنها صامدة حتى الآن- لكي تفسد أي محاولات لتغيير مقدرات الشرق الأوسط، خرجت من البئر قبل أن تسقط فيها، وإن كانت خرجت بديون وأعباء اقتصادية تثقل كاهلها، فإنها ما زالت قادرة على اتخاذ قرار صحيح، يخالف موقف أمريكا، ويدعم حقن الدماء.
(المقالة تعبر عن رأي صاحبها)