في تفاصيل الحديث عن حصار التنظيمات الإرهابية لبلدتي كفريا والفوعة تسمع قصصاً يصعب تصديقها: كأن يلجأ الأطباء إلى قلع العين المصابة كي يتم التخلص من وجعها… في البداية تعتقد أن في الأمر مبالغة، لكن عندما تسمعها من أصحابها مباشرة وتراها بعينيك تصبح الحقيقة أمامك لا مفر منها ولا يمكن نفيها أو الهروب منها.
ليس هذا كل شيء، بل هناك ما هو أفظع، فسكان البلدتين يعيشون منذ نحو عامين تحت حصار يترافق مع استهداف يومي للسكان بأسطوانات الغاز، أو الصواريخ المباشرة من الإرهابيين، الأمر الذي يتسبب بإصابات يعجز ما هو متوافر من مواد وكادر طبي عن علاجها، وهذا ما يفرض قرارات طبية لا يحسد أصحابها عليها كبتر الطرف المصاب كي يتم وقف النزيف والحفاظ على حياة المصاب، أو قلع العين المصابة لتخفيف آلامها غير المحمولة بعد إصابات لا يمكن علاجها، لعدم وجود طبيب اختصاصي، وفي حال وجد لا تتوافر المعدات المطلوبة للعلاج، كحالة حمزة علي حمزة الذي انتزعت عينه المصابة كي يخف ألمها من جهة ولا تؤثر في العين الأخرى من جهة ثانية.
كانت جميلة كردي الناجية الوحيدة من صاروخ إرهابي نال من أربعة آخرين كانوا في منزل واحد، جميلة وهي- اسم على مسمى — شابة في العشرين من عمرها، أصيبت بأكثر من 6 كسور اثنان منها في الجمجمة أودت بنظرها، كانت جميلة حاملاً في الشهر الأول، لكن شاءت الأقدار أن يستمر حملها رغم كل حالتها، تقول جميلة إن اللحظات الأصعب في حياتها كانت عجزها عن رؤية ابنتها بعد الصرخة الأولى.
كان من الممكن أن يعود نظرها وتتمكن من رؤية ابنتها والاهتمام بها كما أخبرها الأطباء فيما لو تمكنت من الحصول على العلاج خلال الأشهر الأولى للإصابة، لكن هذا لم يكن متاحاً، وفرصتها الآن في التداوي خارج القطر.
في تلك البلدتين تلد النساء بعملية قيصرية بما يشبه التخدير، لأنه لا توجد مواد مخدرة، وتجرى عمليات "سنية" بلا تخدير نهائياً، وينتشر مرض التهاب الكبد الوبائي، والأمعاء والسل والكوليرا، بسبب استخدام الأدوات الطبية لأكثر من مريض، كإعطاء الحقن العضلية لعدة مرضى بـ "الإبرة" ذاتها، أو بسبب شرب واستخدام المياه الملوثة.
إذا كان الدواء قد نفد، فقد سبقه نفاد المواد الغذائية والمؤونة من المنازل، وأصبح ما يبقى مما ترميه الطائرات أو يصل بسيارات الهلال الأحمر من مساعدات إنسانية هو المصدر شبه الوحيد للحصول على كسرة الخبز، أو ما يسد الرمق.
هنا نعرض بعض ما يرويه الخارجون من البلدتين المحاصرتين، وكيف يتدبر السكان هناك أمورهم تحت حصار من الإرهابيين اقتربت مدته من العامين.
العيش مع الجوع
بلدتا كفريا والفوعة تطوقهما المجموعات الإرهابية المسلحة وتطبقان على البلدتين منذ الشهر الثالث للعام الماضي، مدة كانت كافية لاستهلاك كل المخزون المتوافر لديهم، وإمعاناً في سياسة التوحش كان أول إجراء فعلته تلك الجماعات هو استهداف خزانات المياه، وتحويل تأمين نقطة الماء إلى هم يومي.
وفي الحديث عن الحصار الاقتصادي الذي يتعرضون له الكثير من التفاصيل، يقول عمر الذي وصل إلى دمشق كما كل الذين التقيناهم من سكان البلدتين المصابين: إن الوضع سيء جداً فكل المواد الأساسية لم تعد متوافرة سواء من طعام أو دواء أو وقود، وحتى وجبة البرغل التي اعتادوا تناولها إلى جانب الماء غير متاحة في كثير من الأيام، وأضاف أبو علي: بعد مرور نحو شهرين على الحصار بدأت المواد تنفد، وشاعت المقايضة بين السلع، ولكن مع طول مدة الحصار ونفاد المواد أصبحت هذه الطريقة غير متاحة، وبدأت الأسعار ترتفع حتى وصلت إلى أرقام مرعبة، كأن يصل سعر كيلو القمح إلى نحو 4 آلاف ليرة، والملح لأكثر من 20 ألف ليرة، والسكر ارتفع سعره من 8 آلاف ليرة حتى وصل إلى 35 ألفاً، أما سعر كيلو البندورة فيفوق 10 آلاف ليرة، يقول محمد أبو سعيد أول يوم أصل فيه إلى دمشق اشتريت كل حاجتي من خضر السوبر ماركت فلم يصل سعرها لسعر كيلو الخضر هناك. أما عبوة اللبن فيصل سعرها لنحو 6 آلاف ليرة. هذه الأسعار تحتاج أجوراً غير تلك التي يحصلون عليها والتي لا تتجاوز 50 ألف ليرة، بل إنها لا تصلهم بشكل منتظم، فقد تنقطع أشهراً متواصلة، مع أن كل هذا المبلغ لا يكفي لشراء خزان من الماء سعة 20 برميلاً، كما قال أبو علي.
استخدم الأهالي كل مدخراتهم، كأن يدفعوا ثمن كيلو من القمح أو الملح، أو السكر قطعة من الذهب، أما القهوة فلها طريقة إعداد مختلفة إذ تعمد الأسر إلى تحميص نصف كيلو من الشعير يضاف إليها 100 غرام من القهوة للحصول على الرائحة ذاتها.
التيمم
كيف يمكن للحياة أن تستمر مع نقص الماء سواء للشرب، أو للاستخدامات العامة ؟ تقول أم علي إنهم عادوا إلى طريقة التيمم، لأن المياه غالباً غير موجودة، واستخدام عبوة من الماء يخصص لعدة أنواع من الأعمال، كأن يتم جلي الصحون، ومن ثم فض الثياب المتسخة، واستخدام ما تبقى منها للشطف. أما الحمام سواء للكبار أو الأطفال فغالباً ليس قبل 20 يوماً وإلى الشهر، وهناك اختراع آخر وهو خياطة ثياب من الحرامات التي تصل عن طريق المساعدات.
تضيف أم علي إنها عاشت مشاعر خوف مضاعفة خلال فترة الحصار هذه بالتزامن مع حملها، فقد أصيب منزلهم بدفعة من جرار الغاز، وحالات الخوف هذه أثرت في الحالة النفسية للمولودة التي تأخرت كثيراً في النطق.
أما من تتعرض من النساء لأي طارئ صحي أو غيره فستواجه قدرها حتى ينقضي الأمر مع الوقت، بمضاعفات أو من دونها، إذ لا إمكانية لفعل أي شيء إسعافي. إيمان رحال أصيبت برصاصات قناص إرهابي تسببت لها بشلل نصفي، إضافة لإصابة عينها وفكها، احتاجت إلى ملازمة المستشفى لأشهر طويلة، لإيمان ولدان صغيران يحتاجان للعناية والرعاية، ولأنها كانت تنقطع عن الأدوية الخاصة لعلاجها أصبحت تدخل في حالة غيبوبة قد تستمر أكثر من يومين، وبعد عملية التبادل سمح لها بالخروج من دون رفقة زوجها، الأمر الذي جعلها وحيدة بحاجة لمعيل، تروي إيمان حادثة إصابتها وتؤكد أن عدم معرفتها لابنها الصغير عندما زارها في المستشفى لن تنساها، ولن تنسى الصدمة التي سببتها له بعدم معرفته.
ليست حالة إيمان الوحيدة التي لم يسمح لها بالخروج مع بقية أفراد أسرتها، فهناك أكثر من 700 حالة تحتاج إلى لم الشمل، حيث يتم تقسيم الأسرة عند أي عملية تبادل كأن يخرج المصاب ومعه فرد من عائلته، من القريتين المحاصرتين إلى دمشق، وغالباً يمنع الإرهابيون خروج الذكور عن عمر 15عاماً وما فوق.
لو تم العلاج
كان يسكن الفوعة نحو 26 ألف شخص، قتل منهم نحو 2500 شخص، وهناك أكثر من 500 مصاب، خرج منهم في عملية التبادل الأخيرة نحو 130 مصاباً اختارهم فريق من الهلال الأحمر وغالباً ما يكون الأشخاص الذين يتم اختيارهم من أصحاب إصابات لا يوجد أطباء اختصاصيين لعلاجهم، كإصابات العينية، العصبية، العظمية، الفشل الكلوي، وحتى هذه الحالات أيضاً يتم اختيار الأسوأ بين الحالات الصعبة. أحمد قنديل مصاب بشلل نصفي، بعد إصابته كان هناك طبيب عظمية لكن لم يكن المخدر متوافراً، فكان العلاج الذي قدم له يقتصر على محاولة قطع النزيف، أي بتر الطرف، كما اقتصر علاج عبد الجليل قنديل الذي تعرض لإصابة عصبية على محاولة إيقاف النزيف، يقول حسين محمد كرابيج إنه خرج بعد عام على إصابته التي جاءت في رأسه، كان يعاني دائماً آلاماً شديدة تنتهي بدوخة وغياب عن الوعي، وكلها حالات كان يمكن لها أن تتعافى فيما لو أتيح له الحصول على العلاج.
محمد أبو أسعد خسر في تفجير إرهابي كل ما يملك صحته وبيته، تعرض لحروق كبيرة، ذهب نظره وسمعه، يقول أصبحت أنا وعائلتي في البراري لا منزل ولا علاج ولا طعام أيضاً، كانت حروقه التي التهمت كل جسده تعالج بطريقة الطب العربي، بعد خروجه من تحت الحصار خضع للكثير من العمليات في محاولة لترميم بعض الإصابات في وجهه وعينيه.
أصعب شيء
يقول كلثوم الذي خسر ساقه وإحدى عينيه بعد إصابته بسيل من الشظايا، إن كل شيء أصعب من بعضه في يوميات الحياة ضمن البلدتين المحاصرتين، إذ إن قطاف موسم الزيتون مغامرة وله ضحاياه كل موسم، وهناك ضحايا يومية لمغامرين قرروا المجازفة بالبحث عن أي طعام من المناطق المجاورة أمام ضغط منظر أطفالهم الجائعين. ترمى المواد الغذائية على السكان من خلال الطائرة، وغالباً ما يتلف الجزء الأكبر مما يرمى خاصة إذا لم تفتح المظلة، وأحياناً تستهدف المظلة من قبل الإرهابيين فتتلف كل المواد وخاصة المحروقات التي هم في أمس الحاجة إليها، وما يصلهم من مساعدات عن طريق الهلال الأحمر يمر في مناطق الإرهابيين وغالباً ما يتم تفتيشها وانتزاع الكثير من المواد الموجودة داخل العبوات ليصلهم الكثير منها فارغاً، أو أن يتم العبث بمحتوياتها، كأن تنزع الإبرة من الحقنة مثلاً.
وفي كل الأحوال ما يصلهم من مساعدات محدود جداً، ويتم تقاسم محتوياته بالغرامات أو الملاعق، كتقسيم عبوة دبس البندورة بالملعقة.
العودة مطلبهم
يبدو جسد المصابة إيمان رحال بحالة طبيعية، تقول «الحمد لله نكاية بالمسلحين يبدو شكلي طبيعياً» والحقيقة إن المطلب الأساسي لكل من تحدثنا إليهم هو تطهير البلدتين من الإرهابيين و العودة إلى أرضهم، ويؤكد هذا القول حالة الاعتزاز بإصابتهم واستعدادهم للعودة ثانية إلى أماكنهم بعد التعافي.
المصدر: صحيفة تشرين