الموصل — سبوتنيك. ربما بعيدا عن أنواء الحرب، تذهب "زمن" إلى مدرستها لتعلم اللغة العربية والإنجليزية، في مخيم "يو 3"، غرب محافظة أربيل، بالقرب من الحدود مع محافظة نينوى، شمال العراق، كانت طيلة الثلاث سنوات الماضية حبيسة منزلها وممنوعة من الخروج في ظل سيطرة تنظيم "داعش" على الموصل.
"زمن" تنحدر من بلدة صغيرة، جنوب شرق الموصل، ظلت مع أسرتها تحت ظل حكم المتطرفين منذ أن أعلنوا دولتهم في حزيران/يونيو 2014، وحتى تشرين الثاني/نوفمبر 2016، حيث شنت القوات العراقية عمليات تحرير الجانب الأيسر من قبضة "داعش"، وهو ما دفع زمن وأسرتها وجيرانها للهرب بحثا عن ملجأ آمن.
فرت "زمن" إلى بلدة مجاورة، حررها الجيش العراقي ، قائلة: "انهزمنا من الدواعش، لكن الحرب طولت، ما كان عند أبوي وأمي فلوس، ندفع إيجارات وأكل وشرب، فما قدرنا نرجع لبيتنا بعد تحرير القرية".
"ما بقى لنا شيء في الموصل"، كان ذلك رد زمن على سؤالنا عن بلدتها الأصلية في المدينة، متابعة: "لما انهزمنا تراكمت علينا الديون، وما كان عندنا قوت يومنا، أبوي قرر يبيع البيت، وبعدين نقلنا البيت على المخيم، من 9 شهور".
باع والد زمن بيته، ليسدد ديونه المتراكمة جراء التهجير، وقسوة وغلاء المعيشة له ولأسرته، التي لم يعد لها مكان في الموصل تعود إليه بعد انتهاء الأزمة، لكن ابتسامتها التي لم تفارقها طوال حديثنا دفعتنا لسؤالها عما إذا كانت تواظب على الدراسة أم لا، فقالت "نعم طبعا، أنا أذهب للمدرسة في المخيم كل يوم، وحتى في الإجازة أروح لدروس التقوية في اللغات، أريد أن أصير طبيبة، لأعالج الناس".
عذب "الدواعش" كما تصفهم زمن أهل القرية التي كانت تعيش فيها في الموصل القديمة الشرقية، قائلة "أختي كان عندها سنة أو سنتين لا أتذكر بالضبط، وماتت، لأننا لم نستطع أخذها للدكتور، لما كانوا الدواعش يتحكمون في القرية، لأن مستشفياتهم كانت لهم هم بس يتعالجون فيها ولا يسمحون بمعالجة بقية الناس".
استكملت زمن حديثها، قائلة: "أريد أكون دكتورة لعلاج الناس الفقراء، الدواعش ما عالجوا أختي وماتت، ومنعوني أذهب للمدرسة، وبعدين نسيت الكتابة والقراءة، بس من جئنا للمخيم وقالوا لي أن هناك مدرسة، أنا قررت أدرس واجتهد شان أطلع دكتورة".
"كنا والله مرتاحين، كل شيء عندنا، مال، وتبريد، من جاء الدواعش انهزمنا (هربنا)، وتركنا كل شيء من ثلاث سنوات"، هكذا تصف الحاجة أم سالم، التي شارفت على التسعين من عمرها، والتي ذبح عناصر من تنظيم داعش ابنها الوحيد في الجانب الأيمن (غرب الموصل).
تقول أم سالم إنها هربت مع زوجة ابنها وأطفاله اليتامى السبعة قبل شهرين فقط، عبر منطقة بادوش مع بدء عمليات تحرير أحياء غرب الموصل من قبضة تنظيم "داعش"، متابعة"والله أنا حاجة كبيرة لا أستطيع المشي والوقوف كثيرا، بس الخوف يخلي الإنسان يركض، الدواعش ما خلوا لنا شيء، ذبحوا ابني عشان يسرقوا سيارته، وحرقوا بيتنا لما الجيش اقترب، وانهزمنا في الليل تحت المطر، مشينا بالوحل ساعات طويلة، نهرب بحياتنا، وأولادنا".
لم تستطع زوجة الابن المذبوح تمالك دموعها، بمجرد تذكر ساعات الهرب التي قضتها مع أطفالها الصغار، قائلة "الحمدلله على كل شيء، هرب بأولادي، أختي ما تركوها الدواعش وخذوها، والله أعلم عايشة ولا ميتة، لم يفرقوا بين نساء ولا رجال ولا كبير ولا صغير، كان أسهل شيء عندهم القتل".
"يحبون الدم"، هكذا وصفت السيدة الأربعينية أم رسول، التي رفضت تصويرها أو ذكر اسمها الحقيقي لنا خشية على حياتها، قائلة "نحن نخاف يطلعون من طاسة الماء التي نشرب بها، لا نعرف ما الذي تخبئه لنا الأيام، بعد عندهم خلايا نائمة".
وأضافت أم رسول "نحن نخاف نتكلم عليهم بالسوء، ولا نحكي شو كانوا يسوون، لا يطلعوا من أي مكان يذبحونا"، قائلة "تحملنا 18 ساعة بين المشي والركض وسط القصف والرصاص لنهرب ونصل إلى مكان آمن".
نقل الجيش أم رسول وزوجها وزوجته الثانية وأطفالهم إلى مخيم "يو 2"، بعد التدقيق في سجلاتهم، وهناك قضوا الشهرين الماضيين، قائلة "من قبل رمضان بـ7 أيام وصلنا المخيم، اسلتمنا الخيمة من غير لا ماء ولا كهرباء ولا أي شيء".
اختلفت حياة نازحي المخيم بعد رمضان، بحسب روايات كثير منهم، فالمخيم الجديد نسبيا الذي أنشئ في أيار/مايو الماضي لاستقبال نازحي الجانب الأيمن من الموصل، انقطعت عنه المساعدات بعد انتهاء شهر رمضان الكريم، ليستقبل سكانه العيد وما بعده ببعض الزيت والأرز والسكر.
كانت المساعدات تنهال على سكان المخيم خلال رمضان مؤسسات خيرية عربية مثل قطر والإمارات وغيرها، إلا أنها توقفت تماما مع نهاية شهر الخير، ما تقول أم رسول، مستكملة حديثها: "لما وصلنا سلمنا المخيم كيس به زيت وأرز وسكر، لكن كانت المؤسسات القطرية تقدم لنا وجبات طعام يومية، فاحتفظنا بالسلع الغذائية طيلة رمضان".
تلجأ أم رسول وبعض من السيدات الأخريات لبيع ما تبقى لديها من الزيت الذي وزع عليها لسكان الخيام الأخرى مقابل الطعام أو مقابل مبلغ زهيد تشتري به بعض الغذاء لطبخه لأودها وأولاد ضرتها، متابعة: "1000 دينار ما عندنا، ناكل من التبرعات من الخيام، بينا وبين بعض، ما حد سأل علينا من نهاية رمضان".
لم تكن أوضاع الأسر الأخرى في المخيم أحسن حالا من أم رسول، حيث قالت سيدة في السبعينيات من العمر، إنها من قرية البعاج الصحراوية، التي لا تزال تحتضن عناصر التنظيم كخلايا نائمة، موضحة: "هنا لا كهرباء، ولا أكل زين، بس أمان عن الذبح والدم في بيوتنا عند الدواعش"، مضيفة: "هربنا من القرية وظلينا نمشي أسبوع في الصحراء أسبوع لا أدري يمكن 10 أيام، حتى وصلنا لقوات الحشد الشعبي التي أنقذتنا وعطونا ماء وأكل".
تعمل هذه السيدة وزوجها رعاة للأغنام في قرية البعاج، كان كل ما تقوم به يوميا هو السير بالأغنام بين جنبات الصحراء، متابعة: "ظللنا نهرب من قرية لقرية بالليل، خوفا من الدواعش الذين هددوا زوجي بالذبح إذا نقل أخبار ما يجري داخلها للقوات الأمنية".
تعيش هذه السيدة منذ 40 يوما ف المخيم، فقدت نور إحدى عينيها قبل عامين ولم تجد طبيبا يداويها، قائلة: "القرية بعيدة عن كل شيء، لا مستشفيات ولا نطلع ولا ندخل، جاء الدواعش أيضا ليضيقوا علينا"، مستكملة حديثها: "الحين فيه كثير منهم موجودين في القرية، خلايا نائمة، هم قالوا حرروها لكن احنا ما نرجع أبدا لبيوتنا، وإلا يقتلونا".
وتحت أشعة الشمس الحارقة، التي دفعت درجات الحرارة للارتفاع إلى نحو الخمسين مئوية، اصطف رجال ونساء وأطفال المخيم أمام منافذ توزيع المياه، ظهرا، فيما تهافت آخرون للفوز بقطع الثلج التي توزع عليهم يوميا.
ما إن دخلت "برادات الثلج" من بوابة المخيم، حتى تهافت النازحون ركضا نحوها، تعالت أصواتهم وسواعدهم لحمل مكعبات الثلج، فهي منقذهم من أشعة الشمس الملتهبة، التي يرزحون تحتها في خيام لا تقيهم حر الصيف ولا برد الشتاء.
يعاني مخيم "يو 2" الذي أنشئ حديثا من نقص مولدات الكهرباء، ولا توجد أي وسائل للتخفيف عن أهله هذا الحر الشديد، بينما يعاني مخيم "يو 3"، من عدم وصول الكهرباء إليه بعد، وما إن تبدأ الشمس بالمغيب، حتى الحياة بالانسحاب تدريجيا من المخيم.
في مواجهة هذا الظلام، لجأت وكالة الأمم المتحدة للهجرة "UNCRH" لتوزيع ألواح صغيرة لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية، وبكل خيمة جهاز صغير لتوصيل اللوحة به، من ثم توصيله بشاحن الهاتف، وهو ما تقوم به "لينا" الفتاة البالغة من العمر 16 عاما، بشكل يومي، قائلة: "حياتنا صعبة في المخيم، وكانت صعبة في بيوتنا أيام حكم الدواعش، حكم الله".
تتقن لينا عمل المشغولات اليدوية، وهي لا تزال خائفة من خلايا داعش النائمة، لكن ذلك لم يمنعها من الحلم بحياة أفضل، قائلة: "أحب اشتغل تطريز وخياطة، أريد فقط أن تبرع لي أحدهم بصوف وإبر لأصنع منها أشياء كثيرة للبيع، أريد مساعدة أهلي، وصديقاتي كلهم بإمكانهن تعلم هذه الصناعة، وهناك سائحون كثر يأتون إلى أربيل، فلماذا لا نصنع لهم هذه المواد ونبيعها ونستكمل حياتنا منها".
وأثناء حديثنا مع لينا، كانت فتاتان من الخيام المجاورة جلبن "جاكيت" قديما، وقمن بقصه لحياكة شيء ما لم نفعه، سألنا الفتاتين ماذا يصنعن، فقلن: "أتينا بهذا الجاكيت القديم، وطلبنا مقص وخيط وإبرة من الإدارة، نريد حياطة مقابض لنمسك بها أواني المطبخ الساخنة، كل مرة تحرقنا في أيدينا، جاءتنا هذه الفكرة، ونجرب يمكن ننجح".
تعرض عدد من الخيام في مجمعات الإيواء للحريق، وهو ما يحدث بشكل متكرر، كما تقول إيمان، متابعة: "كل خيمة عندها مصدر واحد للنار للطبخ، وهو قريب من الخيمة، وكل يومين ثلاثة تحترق خيمة بالكامل لهذا السبب".
فقدت إيمان أوراق هويتها الموصلية في حريق خيمتها قبل أسبوعين تقريبا، قائلة: "والله في دقيقة صارت الخيمة ما موجودة، كلها احترقت".
"نحن من القروان، طاردونا الدواعش قبل شهور إلى مكان قريب من الحدود، كانوا يريدون إرسالنا إلى سوريا"، رواية نازحة أخرى في أواخر السبعينيات من عمرها، متابعة: "لاقينا الحشد، هم من أنقذنا من أيدي الدواعش، كانوا يردون ذبحنا لأن إبني منتسب للقوات الأمنية".
أضافت أم أحمد أن ابنها بطل من أبطال القوات العراقية التي بدأت مع الجيش العراقي قتال مسلحي داعش في الساحل الأيمن من الموصل، قائلة: "3 أيام نمشوا مترجلين وإحنا نهرب من الدواعش، ولولا الحشد لكانوا ذبحونا والله".
وصلت الحاجة أم أحمد السبت الماضي إلى مخيم "سيف دنان" غرب أربيل، مع عشرات العائلات التي نقلها الجيش من مخيمات الإيواء في منطقة حمام علي إلى حين استكمال إجراءات خروجهم من الموصل، قائلة: "تحملنا القهر، والمطر، والحر الشديد، لكي نهرب من الدواعش، تحت قصف بيوتنا وعيالنا، والله يساعد
كان رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، قد أعلن مساء يوم 10 تموز/يوليو، النصر على تنظيم "داعش"، وتحرير مدينة الموصل بالكامل، بعد معركة استمرت نحو تسعة أشهر، منذ تشرين الأول/أكتوبر عام 2016.