بدأنا في الفصل الأول من الكتاب بالحديث عن سيطرة العقل والتفكير الزائد وطرق التحرر منه باعتباره أحد أكبر العوائق التي تقابل الإنسان في مسعاه لتحقيق حالة الحضور، وفي الفصل الثاني أخذنا لمحة عن أهمية عيش اللحظة الحالية فقط بكامل الحواس، وكيف أن ذلك يعد أحد المداخل العظيمة للتخلص من الألم والمعاناة، وثم بحثنا عن أصل خوف الإنسان وأسبابه الحقيقية.
وواصل إيكارت تول حديثه في الفصل الثالث عن معنى السعادة الحقيقية، التي عرفها بأنها حالة مستدامة غير قائمة على أوهام أو مكاسب أو علاقات، وأكد خلال هذا الفصل على أهمية الحضور والوعي في اللحظة الحالية، وإلقاء وراء ظهورنا ما عرّفه في الفصل السابق بـ"الوقت النفسي"، وكيفية التمييز بين حياة الإنسان وموقفه فيها.
Life is a continuum of change. Trees come alive in the growing season but lie dormant in winter months. Our journey also involves periods of growth offset by times of rest & quiet reflection. Embrace all parts of the continuum as the light will always return! #StarfishClub pic.twitter.com/C3l2U6Xpjc
— Melanie Korach (@melanie_korach) February 18, 2018
وصلنا الآن إلى الخطوة الرابعة على طريق التنوير الروحي، وفيها يحدد تول استراتيجيات العقل للهروب من اللحظة الحالية، وكيفية مواجهة ذلك، ويوضح الفارق بين مفهومي حالة اللاوعي الاعتيادي واللاوعي العميق، وأخيرًا يوضح الغرض الأساسي من رحلة الإنسان في حياته.
يبدأ تول الفصل الرابع بطمأنة القارئ بأن حالة الوعي الذي تحدث عنها في الفصول السابقة والاتصال بالذات الحقيقية للإنسان قد ينجح الفرد في الوصول إليها في البداية للحظات قصيرة قبل أن يسحبه عقله مرة أخرى إلى مستنقع أفكاره المدمرة، لكن حتى خلال تلك اللحظات القصيرة يشعر الإنسان بحالة من الحرية والسعادة ربما يشعر بها عندئذٍ للمرة الأولى في حياته، وهي الحالة التي قد يشعر بها الإنسان مرات قليلة خلال حياته عن طريق المصادفة ولا يجد لسعادته تفسيرا منطقيا.
لفت تول إلى أن حالة اللاوعي التي تحجب عن الإنسان روعة اللحظة الحالية يمكن تصنيفها إلى مستويين، لاوعي اعتيادي وآخر عميق، يقصد باللاوعي الاعتيادي حالة الضياع مع المشاعر والرغبات والأفكار التي تدور في رأس الإنسان حيث تكون الأنا هي المسيطر على تصرفات الإنسان، وهي حالة أقل حدة يشعر بها معظم الناس خلال حياتهم اليومية، ويكون نتيجتها حالة من عدم الارتياح أو الاستياء أو الملل غير المبرر.
"In quietness are all things answered." _A Course in Miracles#meditation #silence #universal #answers #awareness #awakening #consciousness #enlightenment #spirituality pic.twitter.com/CrukFGsUrX
— sherolynn braegger (@sbraegger11) February 18, 2018
المستوى الثاني وهو اللاوعي العميق والتي تتحول فيها مشاعر الألم الخفيف إلى تعاسة قاتلة ويأس مخيف، ويقع فيها الإنسان عندما تشعر الأنا بتهديد كبير مثل فشل في مهمة ما أو انهيار علاقة أو فقدان شخص عزيز، فنجد أن الأنا هنا تأخذ الإنسان إلى الدرك الأسفل من اللاوعي والابتعاد عن الاتصال بالذات الحقيقية، وتظهر نتيجة ذلك في شكل غضب عارم أو خوف شديد، أو حتى اكتئاب قد يؤدي إلى الانتحار.
لقياس مدى ما تتحلى به من وعي يمكنك النظر إلى كيفية تعاملك مع تحديات الحياة المختلفة، فإن كنت لا تستطيع البقاء في حالة الوعي وأنت جالس بمفردك أو أنت تستمع إلى شخص ما في الحالات العادية، فأنت على الأرجح لن يمكنك البقاء في منطقة الوعي عندما تسوء الأمور، فستسيطر عليك أفكارك وما ينتج عنها من مشاعر قد تؤذيك قبل أن تؤذي غيرك.
يتضح هنا أهمية التدريب على البقاء في حالة الحضور، بداية من المواقف التقليدية، فعندما تكون بمفردك أو تتجاذب أطراف الحديث مع صديق، سلط ضوء وعيك على أفكارك، اسأل نفسك ما يدور برأسك الان، بماذا أشعر، هل تشعر بطاقة الحياة تنساب في خلايا أطرافك وعموم جسدك، هل تشعر بنعمة دخول الهواء إلى رئتيك وخروجه محملا بالسموم العضوية والنفسية، انتبه لكل ذلك ولا تسلم دفة الأمور للاوعي.
Everyone, the sightseeing tour will begin now! pic.twitter.com/O7PBWbCIC2
— Cherie (@sweetrhythms) February 21, 2018
تعتبر مقاومة اللحظة الحالية ورفضها أحد مسببات حالة اللاوعي، والذي يبدأ التخلص منها عن التوقف عن الشكوى، فالحقيقة إن من اعتاد الشكوى للناس هو بذلك يشحن طاقته السلبية بميله الفطري لوضع نفسه في دور الضحية، لذا فلتستبعد خيار الشكوى، وجرب أن تستبدله بخيارين آخرين عند مواجهة الصعوبات، إما أن تتحرك لتغيير الموقف المزعج أو أن تتقبله كما هو وتتكيف معه.
وتأتي المهام المطلوبة من الإنسان ضمن تحديات الحياة التي تأخذه في كثير من الأحيان بعيدًا عن حالة الوعي والاتصال بالروح، ويرى تول أن حياة الإنسان لها هدفان، أحدهما ظاهر والآخر باطن، أما الهدف الظاهر هو ما ينجزه الإنسان من مهام وخطط مستقبلية ومشاريع تستهدف الارتقاء بمستوى حياته، هذا النوع من الأهداف لا ينبغي أن يتعارض مع الهدف الباطن لحياة الإنسان.
عندما تستحوذ الأهداف الظاهرة لحياة الإنسان على تفكيره وانتباهه، تلهيهه عن ذاته الحقيقية، ويبدأ ضياع الهدف الباطن والحقيقي لحياته، وهو الكيفية التي ينجز بها الإنسان مهامة، وليس النتيجة النهائية، هو ما تفعله في اللحظة الحالية وليس ما ستصل إليه مستقبلا حتى وإن كان هذا المستقبل بعد 5 دقائق من الآن، لذلك فإن إتقان العمل يأتي في مرتبة متقدمة عن مجرد الانتهاء منه، ويمكن تطبيق ذلك على مستوى العلاقات البشرية والعبادات أيضًا.
عندما تدرك أهمية الخطوة التي تتخذها في اللحظة الحالية ستكتشف أنها تحتوي في داخلها على هدفك الأكبر، وستصبح خطوتك الحالية تعبيرا صادقا على الجمال والكمال الذي ننشده جميعا، وسيرشدك ذلك إلى جمال روحك الذي سيظهر ويفيض على كل ما حولك وكل ما تسلكه من تصرفات، ذلك لأن عيش اللحظة الحالية باعتبارها كل ما تملكه في هذه الحياة سيمنحك الكنز الحقيقي في الحياة.
في الفصل الخامس يستكمل تول حديثه المفصل عن الانتظار وخطورته على تحقيق حالة الوعي، والتأكيد على معنى الوعي، وحقيقة قدسية روح الإنسان.