هل يمكن للشراكة السعودية أن تعيد رسم خارطة الاقتصاد التونسي؟

تتزايد في الآونة الأخيرة مؤشرات التقارب الاقتصادي بين تونس والمملكة العربية السعودية، في وقت تبحث فيه تونس عن شركاء قادرين على ضخ استثمارات كبرى تدعم قطاعاتها الحيوية، بينما تمضي الرياض في توسيع حضورها الاستثماري خارج محيطها التقليدي.
Sputnik
ويطرح هذا التقارب الذي ترجم باتفاقيات ومشاريع ملموسة خلال السنوات القليلة الماضية تساؤلات حول خلفياته الاقتصادية وأبعاده الاستراتيجية، وحول ما إذا كان يعكس تحولا في موقع تونس ضمن خريطة الاستثمارات السعودية في المنطقة.

وتمثلت أحدث تجليات هذا المسار في توقيع عقد بناء وتجهيز المستشفى الجامعي، الملك سلمان بن عبد العزيز، في القيروان، بهبة سعودية بلغت 144 مليون دولار، بعد تعطيل دام 8 سنوات، في مشروع وصفه وزير الصحة التونسي، مصطفى الفرجاني، بأنه أحد أكبر المشاريع الصحية الجديدة في البلاد.

هل يمكن للشراكة السعودية أن تعيد رسم خارطة الاقتصاد التونسي؟
ولا يحمل هذا المشروع، وفقا لمراقبين، بعدا اجتماعيا وصحيا فقط، بل يعكس في الآن ذاته عودة الثقة السعودية في الاستثمار العمومي التونسي، وإرادة سياسية مشتركة لإخراج مشاريع كبرى من دائرة الوعود إلى حيز التنفيذ.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، وقّعت تونس مذكرة تعاون مع السعودية في مجال تشجيع الاستثمار، تهدف إلى تدعيم الاستثمار المباشر عبر استكشاف الفرص وتجسيمها، وتعزيز التنسيق وتبادل المعطيات حول مناخ الأعمال، إلى جانب تكثيف التظاهرات الاقتصادية والزيارات المتبادلة بين القطاع الخاص، بما يعكس توجها نحو شراكة أكثر براغماتية تقوم على المصالح المتبادلة.

وعززت اللجنة السعودية التونسية المشتركة هذا المسار في دورتها الحادية عشرة بالرياض، في ديسمبر/كانون الأول 2023، بتوقيع 7 مذكرات تفاهم شملت مجالات الصناعة والزراعة وحماية البيئة والمناخ والسياحة والعمل والمياه، وهي قطاعات تتقاطع مع أولويات التنمية في تونس، ومع توجهات السعودية لتنويع استثماراتها ضمن رؤية 2030، بما يفتح المجال أمام تساؤلات حول حجم الرهان السعودي على السوق التونسية كمنصة استثمارية مستقرة في شمال أفريقيا.
هل يمكن للشراكة السعودية أن تعيد رسم خارطة الاقتصاد التونسي؟
ويجد هذا التقارب جذوره في تاريخ طويل من التعاون يعود إلى سنة 1975 عبر الصندوق السعودي للتنمية، الذي قدم لتونس منحا وقروضا قدرت بنحو مليار و350 مليون دولار، أنجزت بها مشاريع تنموية وبنى تحتية في عدة جهات.
ووفق أرقام رسمية للوكالة التونسية للنهوض بالاستثمار الخارجي، "يبلغ عدد الشركات ذات المساهمة السعودية المنتصبة في تونس 49 شركة، بحجم استثمارات فاق 1082,17 مليون دينار وبطاقة تشغيلية تجاوزت 7500 موطن شغل".

تنويع مصادر التمويل

وفي قراءة اقتصادية للتقارب السعودي التونسي، قال الخبير في الشؤون الاقتصادية، محمود سامي، إن هذه الشراكة تترجم توجه تونس نحو تنويع مصادر التمويل وجذب استثمارات استراتيجية في قطاعات حيوية، وتتيح للسعودية من ناحية أخرى توسيع حضورها الإقليمي بطريقة براغماتية.

وأضاف سامي أن المشاريع الكبرى، مثل المستشفى الجامعي في القيروان، تمثل استثمارا مباشرا في البنية التحتية الحيوية، مؤكدا أن "هذا المشروع يتجاوز كونه مجرد استثمار صحي أو اقتصادي، فهو استجابة لمطلب شعبي طال أمده لدى أهالي القيروان الذين عانوا لعقود من نقص الخدمات الطبية المتخصصة والبنية التحتية الصحية".

تونس عاصمة للسياحة العربية 2027: تتويج عربي يفتح آفاقا جديدة للقطاع السياحي
ولفت إلى أن هذا القطب الطبي سيسهم أيضا في تخفيف الضغط عن المستشفيات الجهوية وسط البلاد وتحفيز استثمارات لاحقة في قطاع الصحة.
وأضاف محمود سامي، أن التقارب السعودي التونسي يكتسب أهمية خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها تونس، حيث سجلت الموازنة العامة للسنة المالية 2026 عجزا قدره 11 مليار دينار (ما يعادل 3.7 مليار دولار).

وتخطط الحكومة التونسية للجوء إلى الاقتراض الخارجي بقيمة 6.8 مليارات دينار (نحو 2.3 مليار دولار) خلال العام المقبل، بزيادة تصل إلى 2.4% مقارنة بعام 2025. ويرى سامي أن هذا الوضع يعزز الحاجة الملحة إلى شركاء ماليين مرنين، مثل السعودية، قادرين على تمويل المشاريع التنموية دون فرض شروط قاسية، كما كان يحصل مع برامج صندوق النقد الدولي، ما يمنح تونس هامشا أكبر في إدارة أولوياتها الاقتصادية والاجتماعية.

وتابع: "الاستثمارات والهبات السعودية تمنح تونس مسارات تمويلية أكثر مرونة، تتيح تنفيذ مشاريع استراتيجية وتنموية دون التضحية بالاستقلالية الاقتصادية أو الانخراط في شروط تقشفية صارمة".
تونس تتوج عاصمة السياحة العربية لعام 2027.. اعتراف بتراثها الثقافي والأثري
وتشهد العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تونس والسعودية ديناميكية متنامية تبرز خاصة في حجم التبادل التجاري بين البلدين الذي عرف تطورا ملحوظا في 2024، حيث بلغ نحو 417 مليون دولار، مسجلا ارتفاعا بنسبة 12% مقارنة بسنة 2023.

ويرى الخبير الاقتصادي أن "ارتفاع حجم التبادل التجاري بهذه الوتيرة يعزز موقع تونس كشريك اقتصادي موثوق ويشير إلى جدية الشراكة السعودية في دعم مشاريع إنتاجية حقيقية، وليس مجرد استثمارات مالية محدودة".

وأشار محمود سامي إلى أن تونس مرشحة لتتحول إلى وجهة استراتيجية ضمن خارطة الاستثمار السعودي، ولكن هذا الزخم يبقى رهينا بقدرة البلاد على تحسين مناخ الأعمال وضمان استقرار تشريعي واقتصادي طويل المدى، وفقا لتأكيده.

سياسة النفوذ الهادئ

وفي تصريح لـ"سبوتنيك"، قال الخبير في العلاقات الدولية، توفيق وناس، إن "التقارب السعودي التونسي لا يمكن قراءته فقط من زاوية اقتصادية أو استثمارية"، معتبرا أن خلفياته السياسية حاضرة وإن كانت تتحرك في مستوى هادئ وغير معلن.

وأوضح وناس أن "السعودية تنظر إلى تونس باعتبارها دولة محورية في شمال أفريقيا، تمتلك موقعا جغرافيا حساسا ورصيدا دبلوماسيا يقوم على التوازن وعدم الانخراط في المحاور الحادة، وهو ما يجعلها شريكا مفضلا في مرحلة إقليمية متذبذبة".

صحفيو تونس يحتجون أمام ساحة الحكومة دفاعا عن حرية الصحافة
وأضاف وناس أن الدعم المالي والمشاريع الكبرى، مثل المستشفى الجامعي في القيروان أو الاتفاقيات القطاعية الأخيرة، تحمل بعدا سياسيا بقدر ما تحمل بعدا تنمويا، قائلا إن "الرياض تسعى إلى دعم الدولة التونسية ومؤسساتها لضمان قدر من الاستقرار، لأن الاستثمار في بيئات هشة سياسيا يبقى محفوفا بالمخاطر".

ويرى وناس أن هذا النمط من الدعم يندرج ضمن ما سماه "سياسة النفوذ الهادئ"، حيث يتم تعزيز الحضور السياسي عبر أدوات اقتصادية واجتماعية دون الدخول في مواجهات أو فرض شروط سياسية مباشرة.

المنتدى الأفريقي حول المرأة والسلم في تونس.. أي دور للمرأة في صناعة الأمن؟
وفي قراءته للسياق الإقليمي، أشار الخبير في العلاقات الدولية إلى أن السعودية تعمل على تنويع شراكاتها خارج الدائرة التقليدية للخليج والمشرق، معتبرا أن تونس تمثل بوابة نحو أفريقيا، وفي الوقت ذاته شريكا لا يفرض كلفة سياسية عالية.

وأكد المتحدث أن هذا التقارب يمنح تونس هامشا أوسع للمناورة في علاقاتها الخارجية، لكنه في المقابل يضعها أمام تحدي تحويل هذا الدعم إلى شراكة متوازنة تخدم التنمية الفعلية ولا تكرس الارتهان.

وختم تصريحه بالتأكيد أن الرهان الحقيقي لا يكمن في حجم الاستثمارات أو عدد الاتفاقيات، بل في قدرة تونس على توفير مناخ قانوني ومؤسساتي مستقر يطمئن المستثمرين ويضمن استدامة المشاريع، متسائلا عما إذا كانت البلاد قادرة على استثمار هذا التقارب سياسيا واقتصاديا دون التفريط في استقلالية قرارها الوطني.
مناقشة