ولفت الباحث إلى أنه إذا كان نوح قد عاشَ بينَ قومه طيلة تلك القرون وهم يتعاقبون، وصبر على جميع الأجيال التي توالت عليه يخلفُ بعضها بعضاً رافضين لدعوته كافرين بالله ورسالته، وثمّ دعا على الجيل الأخير الذي أخذهُ الطوفان فأهلكهُ، فإنّ الأمر سيبدو كالمهزلة ولا يوافق كتاب الله، ولا يقبل به العقل والمنطق. موضحاً أنّ هذه الظاهرة الفريدة من الحياة الطويلة التي تتبدّل عليها الأجيال إن حصلت؛ فستكون كفيلة بجعل الناس يؤمنون بهِ ويُسلّمون لأمره أمامَ هذا المعجز القاهر بصورته المستمرّة، ولكن ليست هذه الطريقة التي اختارها الله لهداية الناس — على حد وصف الباحث زيتون — وإنّما اختار طريقة الامتحان، ليكون الإيمان نابعاً من قلب الإنسان وليس مفروضاً عليه بالمعجز القهريّ: (أحسبَ الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون) العنكبوت/2.
وأضاف زيتون: إذا افترضنا أنّ نوحاً عاشَ بين قومه طيلة هذه المدة، فهل بإمكانكم تخيّل العدد الكبير لأولاده ومن تناسل منهم على مدى تلك القرون، والذين لم يهلك منهم في الطوفان إلاّ واحداً، ولو كانَ هذا صحيحاً فلا بدّ أنّ الأمر سيحتاج إلى أساطيل، وليس إلى سفينةٍ واحدة تقاس بالذراع وتتسع لنوح ولأهل بيته ومَن آمن معه وللأزواج التي حملها من كائنات الأرض.
وأكد أن الأمر الذي يُسلّم بهِ العقل والمنطق ويوافق كتاب الله وسنّته في الخلق، هو أنّ حياةَ الإنسان وأطوارَها المختلفة خاضعةٌ لسنّة الله في الخلق التي لا تبديل لها، لذا لا بدّ من البحث عن حلّ علميّ معرفيّ سليم لهذه المعضلة.
وأردف قائلاً: سبيلنا إلى إدراك هذا الأمر على وجههِ الدقيق هو اللسان العربيّ المبين الذي نزل به الوحي مفصّلاً الكلمات على معانيها صراطاً دقيقاً لا اختلاف فيه ولا يأتيه الباطل من بينَ يديه ولا من خلفه.
واعتبر زيتون، أن القرآن هو الكتاب الوحيد من بين الكتب الإلهيّة الذي وصل إلينا على الوجه الذي نزل به الوحيُ أيّام الرسول، ومن آياتهُ أنّك لا ترى فيه اختلافاً وأنّهُ يفسّرُ بعضهُ بعضاً، وأنّه لا يمكن استبدال كلمةٍ فيه مكان كلمة أو حرفاً مكان حرف فيكون المعنى أبلغ وأدقّ، وإنّما اقتضى الوحي أبجديّة اللسان العربيّ المبين بتناهي إعجازه حدّ الكمال منقطع النظير.
وقال: أدركُ أنّ كثيرين سيستغربون هذا الكلام، وسيعتبرون أنّ بيانَ القرآن لهذا الأمر واضحٌ وصريح بدليل آيته: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبثَ فيهم ألفَ سنةٍ إلاّ خمسين عاماً فأخذهم الطوفانُ وهم ظالمون) العنكبوت / 14. واستدرك زيتون مبيناً أن هناك أسئلةٌ كثيرة تُطلقها هذه الألف سنة وفي فمِ كلّ منها ألفُ سؤالٍ وسؤال، ولا شكّ أنّ هذه الألف سنة هي ممّا نحسن عدّه وحسابهُ (…في يومٍ كانَ مقدارهُ ألف سنةٍ ممّا تعدون)، وما لم نمسكَ منها بشعاعِ عقلٍ ثاقب، لن يبتسمَ لنا هلال هداية، فكيفَ لنا بخمسينَ ألفاً لا ندركها بِعَدٍّ تعرج بالأمرِ وملائكته ؟! (تعرجُ الملائكةُ والروحُ إليه في يومٍ كانَ مقدارهُ خمسينَ ألفَ سنةٍ) المعارج/4.
وبيّن قائلاً: إن هذه النسبيّة الموغلة في القدم ترافقنا كلّ آن ومع كلّ عين، تستلّنا حيناً وتسلّنا آخر، وهي ما بينَ بين وإلى مشارفها تتأرجحُ النفوس بين الشكّ واليقين إلى عقلٍ تطمئنّهُ من ردهات الحيرة.
وأضاف: يومنا الذي نعرفهُ يومان، يومٌ للشمس ويومٌ للقمر، ويتقاسمان علينا الليل والنهار، وأنا لستُ فلكيّاً ولا من هواةِ الرصد، والقرآن لم ينزل للفلكيّين فقط وإنّما هُدىً للناس وأنا منهم، ومادام فيهِ تبيانٌ لكلِّ شيء كما يقول مرسلهُ، فلأطرقنَّ هذا الباب حتّى يُفتَحَ لي وأصدع الشكّ باليقين.
ولا أراني إلاّ وقد قبضتُ على مفتاح الحقيقة الجليّة الواضحة التي تؤكد على أنّ نوحاً لم يُعمّر في الأرض أكثرَ ممّا عهدناهُ وعرفناهُ وألِفناهُ، في هذه الآية بالتحديد وبلسانها العربيّ المبين، فدعونا أوّلا نتدبّر القول ومعناه.
السادة القراء، تحية طيبة. نظراً للتفاصيل الكثيرة التي تضمنتها دراسة الباحث أسد زيتون وننشرها في "سبوتنيك"، سيكون لنا غداً موعد مع نشر الجزء الثاني والأخير لهذه القضية المطروحة.