الحدود العراقية — السورية — سبوتنيك. يراقب "علي" طوال ساعات عمله الطويلة في النهار، تحت أشعة الشمس الحارقة، تحركات عناصر التنظيم الإرهابي، عبر عدسة الكورنيت، التي رأينا من خلالها رايات "داعش" القابعة على هامات مباني قرى سورية في المواجهة، وسياراتهم التي تنطلق بسرعة البرق لتنقل عناصرهم المدججين بالأسلحة إلى جبهات القتال ضد قوات سوريا الديمقراطية في ريف دير الزور.
وصلنا لهذا الموقع الاستراتيجي، عبورا بصحراء واسعة، في طريقنا إلى الحدود العراقية السورية، لم يكن الدرب الترابي سهلا، فالطريق الممهد غير آمن بالمرة، بينما يصل الدرب من جبل سنجار، عبر عشرات القرى العراقية والكردية، إلى منطقة الحدود عبر قضاء البعاج، فلم يكن مستغربا سماع دوي الانفجارات، وإطلاق النيران، الآتي من بعيد طيلة الطريق.
خطأ واحد في الطريق إلى تل صفوك، أدخلنا منطقة غير آمنة بين البعاج والقيروان، تتنامى فيها الخلايا النائمة لتنظيم "داعش"، بينما تظهر على جدران القرى على جانبي الطريق علامات تظهر نفوذ التنظيم الذي كان يسيطر على هذه المنطقة.
الحشد الشعبي
لا تزال عمليات قوات الحشد الشعبي جارية لتطهير الطريق نحو الحدود العراقية مع سوريا وتأمينها، فبحسب مصادر إعلامية فإن القوات تمكنت من تصفية ثلاثة من كبار قادة تنظيم "داعش" الإرهابي في منطقة على هذا الطريق أمس الجمعة، بينهم "أبو إيمان مسؤول الشرطة الإسلامية في تلعفر، وأبو عبد زعيزيعة مسؤول تجنيد الانتحاريين، وناصر عبد الله خضر البدراني مسؤول التخطيط للخلايا".
وسط مساحات سوداء سرنا على طريق يفصل جانبي القرى وأراضي القمح، التي أحرقها "داعش" أملا في عرقلة تقدم قوات الحشد الشعبي، ولم يكتفِ بحرق عشرات الكيلومترات فقط، بل عمد عناصره لتكسير وحرق وتفجير البيوت التي كان سرقها من أهلها عنوة ليسكنها.
لم يسلم جدار واحد من عشرات القرى المؤدية للحدود العراقية السورية من ضراوة المعارك التي خاضتها القوات العراقية ضد التنظيم، فالدمار الذي حلّ بها دليل واضح على شراستها، بينما تتناثر السيارات المفخخة التي فجرها انتحاريو التنظيم الإرهابي في كل مكان.
قيادة لواء الطفوف
وسط دوي قصف مدفعي، وصلنا إلى مقر قيادة لواء الطفوف، أحد أهم مكونات الحشد الشعبي، للقاء "سيد أحمد نصر الله"، مساعد آمر المنطقة الحدودية، الذي عاد لتوه من صد تعرض نفذه انتحاريو ومسلحو التنظيم الإرهابي، على بعد أمتار من الساتر الترابي الحدودي.
قال نصر الله لسبوتنيك إن قوات الحشد الشعبي "هبّت لتحرير المنطقة الحدودية منذ فتوى آية الله علي السيستاني بالجهاد"، موضحا أن "هذه المنطقة الحدودية يبلغ طولها 68 كيلومترا مع سوريا، وترابط بها سبعة ألوية".
وأضاف نصر الله أن "مهام اللواء لا يقتصر على القتال، وصد تقدمات العدو، بل يمتد لإيصال المعونات لمخيمات النازحين، والأهالي الذين انقطعت بهم السبل في هذه المنطقة الصحراوية".
ولفت نصر الله إلى أن القوات تعمل يوميا على "جرد العوائل المتواجدة في عشرات القرى المحيطة، من حيث أعدادها"، موضحا أن "غالبية سكانها رعاة أغنام".
وحول معدلات أعداد هذه العائلات، قال نصر الله إن قرية بها "105 عائلة، فيما الأخرى 95 عائلة، وأخرى 118 عائلة، وكلها كانت تحت حكم التنظيم الإرهابي"، مبينا أن "الجرد مستمر".
وشدد نصر الله على أن قوات الحشد الشعبي "تقدم المعونة الطبية من خلال عيادات متنقلة، وتقدم أيضا مياه الشرب، باعتبار أن الأهالي يعتمدون على الآبار، وقد أصبحت غير آمنة في الوقت الحالي، بالإضافة إلى تقديم الطعام، والمساعدات الأخرى كالوقود، ومولدات الكهرباء".
أقرب منطقة يمكن للأهالي التزود منها بالخضر والفاكهة وغيرها هي منطقة القيارة، البعيدة، وأضاف نصر الله أن قوات الحشد "تجلب مسلتزمات العوائل من القيارة، بالإضافة على توفير سيارات لنقل الأهالي، والطلاب، والمصابين، بين الحين والآخر إلى هناك".
سبعة ألوية تتواجد قواتها على حوائط الصد والسواتر الترابية في مواجهة العدو القادم بأذاه من سوريا، وراء تحصينات، وأسلحة، وسواعد قوية، وعلى الرغم من ذلك يسقط قتلى وجرحى في صفوفهم، بسبب قوة وتسليح عناصر "داعش"، ومدرعاتهم المفخخة التي ينفذون بها هجمات وتعرضات دامية.
يقول نصر الله إن "90 بالمئة من الهجمات على الساتر تأتي من الجانب السوري، وصحراء الجزيرة — شمال غرب العراق- وتنفذ بمدافع الهاون، ومدافع 23، والمدفعية المتوسطة، والعجلات المفخخة".
يهدف التنظيم من وراء هذه الهجمات إلى عرقلة القوات عن تنظيم صفوفها، وإلحاق الأضرار بها، بالإضافة إلى تنفيذ عمليات تسلل عبر الحدود بعد هزيمة التنظيم الساحقة في الموصل، بحسب نصر الله، الذي أضاف أن "حالات التسلل، ومحاولات خرق السواتر مستمرة يوميا تقريبا، فالتنظيم يحاول تهريب قياداته ومسلحيه العالقين في الموصل، وعوائلهم أيضا".
دوي المدفعية الذي اخترق آذاننا في طريقنا نحو الساتر الترابي كان اعتراض مقاتلي لواء الطفوف لمدرعة مفخخة يقودها انتحاري من التنظيم في سوريا نحو الساتر، وبحسب نصر الله فإنه "منذ قليل كان هناك حالة تسلل بعجلة مفخخة، استهدفها أحد الأخوة المقاتلين في اللواء وفجرها، قبيل وصولها للساتر الترابي".
ولفت نصر الله إلى أن "عددا من أعضاء التنظيم حلقوا ذقونهم واندسوا وسط النازحين، وكان التنظيم يحاول تهريبهم وسط النازحين، قائلا: "هناك قادة دواعش اندسوا بين العوائل النازحة، ووصلوا للمنطقة الحدودية، مستغلين الجانب الإنساني للحشد الشعبي، وتداخلوا بين المدنيين للهروب".
الحياة في ظلّ "داعش"
كانت وحدة الحشد الهندسية فككت لتوها عبوتين ناسفتين في المدرسة المقابلة لمنزل عائلة في قرية ساحة قنفص الحدودية، قالت ربة المنزل إن تعيش في هذا القرية منذ فترة طويلة، موضحة: "من لما حكمت الدولة ألزمونا بيوتنا، ما كنا نقدر نطلع من بيوتنا بلا خمار، حتى عيوننا نخبئهم".
تعاني هذه السيدة من مرض أفقدها جزءا من بصرها، متابعة: "والله حاصرونا من كل صف، يلبسونا أسود ولا حرمة تطلع، والأولاد لازم يقصرون أثوابهم، وإذا ما نمشي على أمرهم تعرفي ما الذي يحدث، نحن ما قدرنا ومشينا بأمرهم".
أجابت السيدة عن سؤالنا حول أسباب بقائها وعائلتها في القرية تحت حكم "داعش"، فقالت: "ما عندنا واسطة وبيتنا تهدم وما عرفنا وين نروح وما عندنا سيارة كيف ننهزم"، لافتة "هددوا من لا يسير بأوامرهم بالذبح، نحن ما شفنا شيء، لكن يقولون فيه منطقة مجاورة ضربوا كثير من الناس".
وأضافت السيدة أن قيادات التنظيم في القرية حذرتهم من قوات الحشد الشعبي التي تمركزت على أبوابها قبيل معركة تحريرها، قائلة: "خوفونا من الحشد، وقالوا لنا يقتلوكم، ويسبون بناتكم".
فيما قال الابنة الكبرى لهذه السيدة "لا أريد الحديث، أخاف، لا أريد"، وبعد ضغط للحديث، قالت "والله عذبونا، ما نعيش بحرية، كانوا يقتحمون علينا البيوت، ويبحثون من عنده تلفون ويطبقون عليه عقوبة، يضربون كل الناس، حتى الصغار، ما يخلون أحد".
قاطعتها والدتها لتقول إن عناصر التنظيم "اقتحموا عليهم البيت ذات مرة، لمعاقبة ابنها البالغ من العمر 16 عاما، لأنه أمرد"، موضحة: "قالوا لي ابني يحلق ذقنه، هو خطية مواليد 2001 كيف يصير عنده ذقن، لسة صغير ما طلعله".
يقول علي الشلال معلم بمدرسة ساحة قنفص الابتدائية "في البداية استولى داعش على القرية المجاورة لنا أم الذيبان، بعدها جاءوا إلى هذه القرية وأنشأوا مقرات لهم".
وأضاف الشلال أن "مضايقات الدواعش له ولأهل القرية لم تتوقف، ما دفع أكثرهم للرحيل نحو قرية بعيدة"، على حد قوله، موضحا "طالبني الدواعش بمفاتيح المدرسة، لأنهم أرادوا تحويلها لمقر لهم، ادعيت أنني لا أملك مفاتيحها، فذهبوا للمدرسة، وكسروا الأبواب، والنوافذ، وعاثوا بممتلكاتها، ولا نعرف ماذا أخذوا، أو ماذا فعلوا، لم أعرف لأنني تركتهم وهربت".
عن أحوال القرية الآن، قال الشلال إن "الحمد لله جاء الحشد وحررنا، ورجعنا لبيوتنا، ولما عدت ذهبت للمدرسة لملمت الكتب التي قطعوها، وحاولت أنظف التخريب الذي فعلوه، كسروا كل شيء، ومكان الفصول وضعوا قواعد صواريخ هاون، وغيرها، جئنا للصف الثاني وجدناه مفخخ، وجدنا به عبوات ناسفة كبيرة، عرفناها من الأسلاك والكابلات، مثلها مثل حال أكثر من 8 بيوت بالقرية".
يقول مساعد آمر لواء الطفوف إن "الدواعش لم يتركوا شيئا إلا وفخخوه، حتى البيوت، والمدارس"، موضحا أن "هندسة الحشد فككت عبوتين كانتا مصممتين للانفجار عن بُعد، لكن العبوتين الأخريين كان لابد من تفجيرهما، لأنهما من نوع ليزري، لا يمكنن تفككيه، وفجرناهما لإنهاء خطرهما على السكان".
وأضاف مساعد آمر اللواء أن "الدواعش يعرفون أن قوات الحشد بعد تحريرها لأي منطقة، تلجأ لأماكن بعيدة عن بيوت المدنيين، لذلك زرعوا هذه العبوات في المدارس، لإعاقة قواتنا من التقدم نحوها، والحيلولة دون بقائهم فيها".
يقول الشلال أن "الدواعش طيلة الثلاث سنوات الماضية، كانوا يجبرون الرجال جميعا على حضور الصلاة في المسجد، وفي يوم الجمعة، يغصبون عليهم أن يصلوا في مساجدهم، ويسمعوا خطبهم، التي كان معظمها تحريضا ضد البلد، والحكومة، والشيعة، وغيرها من الأمور، كانوا في خطب الجمعة كل واحد فيهم يجيب موضوع من جيبه، ويدعون الناس للانضمام إليهم".
حديث الشلال كان متضادا، فبعدما أكد أنه هرب لقرية بعيدة عن الدواعش، شدد على أن عناصر التنظيم "طالبوه وبقية الأهالي بإخلاء القرية مع اقتراب ألوية الحشد الشعبي منها"، قائلا "بلغونا لازم نخلي القرية خلال ساعتين، ولما تحررت رجعنا إلى بيوتنا".
أضاف الشلال أنه عندما عاد للقرية مع بعض الأهالي "وجدوا أسلحة عناصر التنظيم، وعبواتهم الناسفة"، وبسؤاله عما إذا كان مسلحو التنظيم سرقوا مقتنيات المنازل، قال: "ما صار عندهم مجال يسرقون، لأن الحشد اقتحم القرية في الليل فجأة، وانسحبوا هم سريعا"، موضحا: "وجدنا بس ممتلكات البيت مكسرة، وثيابنا مخربطة، وما في شيء في مكانه".
وقال خبير تفكيك المتفجرات التابع للواء الطفوف لسبوتنيك إن "غالبية العبوات التي زرعها "داعش" في المنطقة من النوع الليزري، ضد الرفع، وهو غير قابل للتفكيك"، مؤكدا أن فريقه "فكك عبوات من أنواع أخرى في ستة بيوت في قريتي ساحة قنفص، والعوانة، بالإضافة على المدرسة".