وتأتي هذه التصريحات في توقيت بالغ الدقة، على إيقاع تحديد موعد انسحاب القوات الأجنبية المقرر، في أيلول/ سبتمبر 2026، وفق التفاهمات الرسمية المعلنة بين بغداد وواشنطن.
وفي الوقت الذي تعد فيه العدة لمغادرة تلك القوات، تتسارع المخاوف من عودة نشاط تنظيم "داعش" الإرهابي (المحظور في روسيا ودول عدة) في سوريا قرب الحدود العراقية، ما يعيد رسم علامات القلق حول مستقبل الأمن الإقليمي، ومدى جهوزية البلاد لملء الفراغ الذي سيخلّفه هذا الانسحاب، وسط تكهنات بأن الاستقرار قد يكون الورقة الأخيرة في معادلة بقاء أو رحيل التحالف.
وخلال
الحرب التي دارت بين إيران وإسرائيل، خلال الشهر الماضي، نددت الحكومة العراقية باستخدام إسرائيل للأجواء العراقية في تنفيذ هجمات ضد إيران، ودعت الولايات المتحدة إلى تحمل مسؤولياتها الكاملة تجاه حماية الأجواء العراقية، ومنع تكرار هذه الانتهاكات.
وكان أعلن رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، أن بلاده تمكنت من إنهاء مهمة التحالف الدولي على أراضيها "
عبر الحوار"، مؤكداً أن العلاقة مع الولايات المتحدة دخلت مرحلة جديدة قائمة على التعاون الثنائي المباشر.
وفي السياق ذاته، كشف وزير الدفاع العراقي، ثابت العباسي، عن وجود اتفاقية أمنية جديدة قيد الدراسة بين العراق والولايات المتحدة، تهدف إلى إرساء شراكة أمنية طويلة الأمد، وتعزيز التعاون في مجالي الاستخبارات والتنسيق الأمني بين الجانبين.
وفي هذا السياق، يقول المحلل السياسي العراقي مناف الموسوي، في حديث لـ "سبوتنيك": "المشهد الإقليمي اليوم، يشهد الكثير من المتغيرات التي قد تؤثر بشكل مباشر على م
ستقبل الوجود العسكري الأمريكي في العراق"، مشيرا إلى "وجود مباحثات جارية بين الحكومة العراقية والإدارة الأميركية ضمن ما يعرف بـ "الحوار الاستراتيجي" أو "اللقاءات الاستراتيجية".
ولفت المحلل العراقي إلى أن "هذه المتغيرات قد تفرض واقعا سياسيا وأمنيا جديدا، يؤدي إلى تأجيل أو تعديل الاتفاقات المتعلقة بمغادرة تلك القوات، وفقا للأهداف والمصالح الاستراتيجية المشتركة".
وبحسب خطة إعادة الانتشار، من المقرر أن تنسحب جميع القوات من
قاعدة عين الأسد الجوية في محافظة الأنبار وتقلص وجودها بشكل كبير في بغداد بحلول أيلول/سبتمبر 2025.
في المقابل، يؤكد المحلل السياسي العراقي، ماهر عبد جودة، أن "ملف انسحاب القوات الأمريكية من العراق لا يمكن التعامل معه
كمسألة أمنية أو عسكرية فقط، بل هو قرار سياسي بامتياز، تحكمه عوامل داخلية وخارجية متشابكة، تتطلب فهماً عميقاً لطبيعة النظام السياسي العراقي ومهارة الفاعلين فيه".
ويشدد عبد جودة على أن "التغيرات الظاهرة في المشهد السياسي قد لا تعكس بالضرورة حقيقة ما يجري خلف الكواليس، حيث تظل القرارات الكبرى محصورة بين صناع القرار من الجانبين، وهم من يمتلكون تفاصيل الاتفاقيات ويرسمون خريطة الواجبات والالتزامات المتبادلة".
ويتابع: "المتغيرات العالمية والإقليمية، إلى جانب التحديات الداخلية، ستفرض دون شك واقعا جديدا يتطلب من الساسة العراقيين وعيا عاليا في حماية السيادة الوطنية، والدفاع عن المصالح العليا للشعب العراقي، بعيدا عن الانجرار إلى
صراعات لا تخدم السلام ولا الاستقرار".
وفي تشرين الأول/أكتوبر 2022، اعتبرت الولايات المتحدة "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" الأساس لتنظيم علاقاتها مع الحكومة العراقية، بما يضمن تعزيز جهود مكافحة الإرهاب والفساد، ودعم بناء المؤسسات الأمنية الرسمية، وذلك بحسب ما أكدته السفيرة الأمريكية في بغداد، ألينا رومانوسكي. وفي نيسان/أبريل 2023، ناقش رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، خلال زيارته إلى واشنطن، سبل مواصلة تنفيذ بنود الاتفاقية، والتأكيد على التزام الجانبين بمواصلة التعاون ضمن إطارها.
ويشير الفضلي، خلال حديثه لـ "سبوتنيك"، إلى أن "العراق يعد جزءا من اتفاقية استراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن حلف الـ"ناتو" يتحمل الآن مسؤولية أمنية مباشرة ضمن هذا الإطار، لا سيما بعد التصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل، والذي كشف عن هشاشة
منظومة الدفاع الجوي العراقية، وعجزها عن حماية السيادة الوطنية بشكل كامل".
ويضيف: "
قدرة العراق العسكرية لا تزال غير مكتملة، سواء في مجال الدفاع عن أراضيه أو أجوائه، ما يجعله عرضة للاختراق من قبل الجماعات الإرهابية، خصوصا "داعش" الذي ما زال ينشط على الحدود السورية، وينفذ تحركات خطرة يمكن أن تهدد الاستقرار الداخلي بشكل مباشر".
ويختم: " الواقع العراقي لا يحتمل الطروحات النظرية أو المواقف الانفعالية، فالمطلوب هو بناء الدولة بشكل تدريجي، وتعزيز القدرات الوطنية، ومن ثم الانتقال إلى مراحل متقدمة من الاعتماد على الذات"، معتبرًا أن "الاستعجال في فك الارتباط مع الشركاء الدوليين قد يعيد العراق إلى دائرة الفوضى الأمنية".
وأوصى معهد "نيو لاين إنستيتيوت" الأمريكي إدارة الرئيس دونالد ترامب بتمديد بقاء القوات الأمريكية في العراق حتى عام 2029، محذرا من أن الانسحاب المفاجئ قد يضعف قدرات الأمن العراقي ويقوض جهود محاربة "داعش".
وأشار التقرير إلى أن تصاعد التوتر الإقليمي وتراجع النفوذ الإيراني، لاسيما بعد رحيل النظام السوري وتراجع دور الحرس الثوري، أتاح
فرصا استراتيجية جديدة للولايات المتحدة في العراق وسوريا، كما لفت إلى أن ضعف قبضة طهران قلص التهديدات على القوات الأمريكية، مما يمنح واشنطن مساحة لتعزيز دعمها لشركائها المحليين في الحرب ضد الإرهاب.
من جهته، قال المحلل السياسي علي الحبيب لـ "سبوتنيك": "لم يقدم الجانب الأمريكي الدعم للعراق في محاربة "داعش" منذ عام 2014 عندما نفذ عناصر التنظيم أحداثا دامية في البلاد"، مؤكدًا أن "تقصير واشنطن في هذا الصدد، فيه مخالف للاتفاقية التي أبرمت عام 2008 والتي تسمى "الاستراتيجية الأمريكية" وتنص على حماية الأراضي العراقية في حالة تعرضها إلى حدث أمني كبير.
وأشار الحبيب إلى أن "أمريكا منعت العراق من الوصول إلى المناطق التي كان يسيطر عليها داعش أثناء مرحلة التحرير، ولم تقدم أي دعم للقوات العراقية رغم وجود طائرات أمريكية تقوم بعمليات جوية"، واستدرك: "كانت عدما تحاول
القوات الأمنية العراقية التقدم باتجاه المناطق التي يوجد فيها داعش، لا يسمح لها بذلك بحجة أنه يجب أخذ الموافقة الأمريكية".
وأكد الحبيب أن ذلك "كان دليلا على وجود أذرع أمريكية لها اتصال مباشر مع هذه التنظيمات أو الإرهابية"، مبينا أن "التحالف الدولي لم يحقق الغاية المطلوبة من وجوده في محاربة الإرهاب، وتوفير الحماية الكاملة للعراق"، مشددا على أن " من حرر العراق من داعش عام 2014 هم العراقيون".