وبينما تتزايد أعداد السكان وتضيق المساحات الصالحة للسكن، تقف الحلول الحكومية خجولة أمام زحف المضاربات العقارية وغياب التخطيط العمراني المدروس، وفي وقت تتحول فيه الأحياء الشعبية إلى بيئة طاردة لأهلها بسبب الغلاء.
لمعالجة هذه الظاهرة، أعلن رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، عام 2023، انطلاق العمل في مشروع مدينة الجواهري السكنية، الواقعة في قضاء أبو غريب غرب العاصمة بغداد، وذلك ضمن خطة الحكومة لإنشاء خمس مدن جديدة تهدف إلى معالجة أزمة السكن المتفاقمة، والحد من الزخم السكاني في مراكز المدن الرئيسة.
ويأتي هذا الإعلان بعد موافقة مجلس الوزراء على إحالة مشاريع أربع مدن سكنية كبرى إلى شركات استثمارية محلية وأجنبية متخصصة، وتشمل هذه المشاريع "مدينة الجواهري في بغداد، مدينة الغزلاني في نينوى، مدينة الجنائن في بابل، ومدينة ضفاف في كربلاء"، كما باشرت الجهات المعنية بالأعمال التنفيذية في الطريق المؤدي إلى مشروع مدينة علي الوردي السكنية، وهي المدينة الخامسة ضمن هذه الخطة الوطنية الطموحة.
وتغطي مدينة الجواهري مساحة تبلغ 7121 دونما، وتضم ما يزيد على 30 ألف وحدة سكنية بمواصفات متنوعة، إلى جانب 10 آلاف قطعة أرض سكنية مجهّزة بالخدمات. كما يتضمن المشروع مرافق متكاملة تشمل جامعات، مراكز تجارية، نحو 70 مدرسة، فضلا عن مختلف الخدمات الحضرية والمراكز المجتمعية، ضمن تصور لمدينة ذكية تعتمد أحدث المعايير البيئية والتقنيات الرقمية في تقديم الخدمات.
أما مدينة علي الوردي، التي سميت تيمنا بعالم الاجتماع العراقي الراحل، فتمتد على مساحة 61 مليون متر مربع إلى الجنوب الشرقي من بغداد، وستوفر نحو 120 ألف وحدة سكنية، بالإضافة إلى بنى تحتية متطورة، مساحات خضراء، ومرافق تكنولوجية حديثة تعكس مفهوم المدن الذكية المتكاملة.
مراجعة أسعار العقارات وتسهيل القروض السكنية
وفي هذا الصدد، يقول الخبير القانوني فيصل ريكان، لـ "سبوتنيك": "أسعار العقارات في العراق، ولا سيما في المشاريع الاستثمارية، تشهد تصاعدا غير مسبوق، ما يجعل من الصعب على المواطن العراقي، خاصة من ذوي الدخل المحدود، امتلاك وحدة سكنية".
ويشير ريكان، إلى أن "هذا الارتفاع اللافت في الأسعار أوجد فجوة واسعة بين القدرة الشرائية للمواطن وأسعار الوحدات السكنية المعروضة"، مضيفا: "الأمر بات يتطلب مراجعة شاملة لهذه الأسعار، وكذلك إعادة تقييم آليات تقديم القروض والتسهيلات المصرفية للمواطنين".
ويوضح أن "بعض المصارف العراقية والمحلية، وحتى بعض البنوك في دول المنطقة، بدأت بالفعل بتقديم قروض سكنية تسهل عملية الشراء، لكنها غالبا ما تكون مشروطة بفوائد مرتفعة، وخصم مباشر من مبلغ القرض، ما يثقل كاهل المواطن بدل أن يساعده"، مضيفا: "ارتفاع الأسعار أتاح فرصة لاحتكار أصحاب رؤوس الأموال والأثرياء لعدد كبير من الوحدات في المجمعات الاستثمارية، ما مكّنهم من التحكم بالأسعار وحرمان المواطن من فرصة التملك".
ويدعو ريكان، من الجانب القانوني والاجتماعي، الحكومة العراقية، ووزارة المالية، والبنك المركزي العراقي، إلى "ضرورة التدخل عبر إطلاق مبادرات إسكانية مدعومة، أو إنشاء وحدات سكنية واطئة الكلفة مخصصة للمواطنين محدودي الدخل، لضمان حقهم في السكن وتمكينهم من شراء مساكن لائقة بعيداً عن تعقيدات السوق الحالية".
وأكد ريكان "أهمية إيجاد حلول استراتيجية تنهي أزمة السكن في العراق، وتكسر حلقة الاحتكار والغلاء، لضمان العدالة الاجتماعية وتحقيق الاستقرار السكني للمواطن العراقي".
وتشير التقديرات الرسمية وغير الرسمية إلى أن العراق بحاجة إلى إنشاء ما بين 3 إلى 3.5 ملايين وحدة سكنية، من أجل التخفيف من حدة أزمة السكن المزمنة التي تعاني منها البلاد منذ سنوات، والتي تفاقمت بشكل ملحوظ في ظل الارتفاع الكبير الذي شهدته أسعار العقارات خلال الأعوام الأخيرة، ما زاد من صعوبة امتلاك المسكن بالنسبة لشرائح واسعة من المواطنين.
استراتيجية بعيدة المدى
يؤكد الباحث الاقتصادي أحمد خليل، أن "أزمة السكن في العراق، وتحديدا في العاصمة بغداد، وصلت إلى مستويات مقلقة، إذ أن "عدد سكان المدينة تجاوز حاجز المليون نسمة، ما يتسبب بضغط هائل على البنية التحتية والخدمات، ويفاقم من أزمة السكن بشكل مباشر".
ويضيف في حديث لـ "سبوتنيك": "غياب التخطيط العمراني الاستراتيجي من قبل الجهات المعنية، سواء في محافظة بغداد أو أمانة العاصمة، ساهم في تفاقم المشكلة، حيث تتركز مشاريع المجمعات السكنية داخل الأحياء المكتظة سلفا، ما يؤدي إلى مزيد من الازدحام السكاني ويؤثر سلبا على البيئة الحضرية، مسببا أزمات في الكهرباء والمياه والنقل".
ويتابع خليل: "أسعار الشقق السكنية داخل مركز بغداد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، حيث لا تقل قيمة الوحدة السكنية الواحدة عن نصف مليار دينار عراقي، وهو ما يجعل امتلاك مسكن أمرا مستحيلا للمواطن البسيط أو محدود الدخل"، داعيا الحكومة العراقية، ومجلس الوزراء، ومحافظة بغداد، إلى "إعادة النظر في التخطيط العمراني للعاصمة، والتوجه نحو إنشاء مجمعات سكنية خارج حدود المدينة لتقليل الضغط عن المركز، وتحقيق توازن في التوسع العمراني".
كما يشيد خليل "بالمقترحات السابقة لإنشاء مدن جديدة مثل مدينة علي الوردي، التي يمكن أن تمثل نموذجا لحل الأزمة في حال تم تنفيذها بخطة مدروسة".
وشدد خليل على "أهمية أن تتضمن البرامج الحكومية المقبلة، بالتزامن مع الاستحقاقات الانتخابية القادمة، رؤية استراتيجية واضحة لمعالجة أزمة السكن، بما يضمن حق المواطن في السكن الكريم ويضع حدًا للارتفاع المبالغ فيه بأسعار العقارات داخل بغداد".
وأظهر مؤشر "ميرسر" العالمي لجودة الحياة للعام الماضي 2024، والذي شمل تقييم 231 مدينة حول العالم، أن العاصمة العراقية بغداد تقاسمت المرتبة الأخيرة مع العاصمة السورية دمشق، لتسجلا أدنى تصنيف بين مدن العالم من حيث جودة المعيشة.
تنظيم آلية الاستثمار السكني
من جهته، يؤكد الباحث الاقتصادي أحمد الأنصاري على "ضرورة إعادة تنظيم آلية الاستثمار في قطاع المجمعات السكنية في العراق"، موضحا أن "بعض المشاريع الاستثمارية تشوبها ثغرات في التخطيط والتسعير، أثرت سلبا على فرص المواطن في امتلاك وحدة سكنية".
ويقول الأنصاري، لـ "سبوتنيك": "من المفترض أن تمنح الأراضي للمستثمرين مجانا، مقابل التزامهم بتقديم دراسة جدوى اقتصادية دقيقة تحدد على أساسها سعر بيع المتر المربع، بالاعتماد على تكاليف البناء الحقيقية والمعروفة وفق الشروط العامة والمواصفات الهندسية المعتمدة"، لافتا إلى أن "تكاليف البناء اليوم مكشوفة للجميع، ما يجعل من الممكن ضبط الأسعار، بحيث يسمح للمستثمر بتحقيق هامش ربح مشروع يتراوح بين 20% و30% فقط، ما يؤدي إلى تحديد أسعار معقولة تمكّن المواطنين من الطبقة المتوسطة وذوي الدخل المحدود من شراء الوحدات بالتقسيط".
ويتابع: "دعم هذه المجمعات يجب أن يعزز من خلال القروض العقارية"، لافتا إلى أن "المصرف العقاري يقدم قرضا يصل إلى 150 مليون دينار عراقي، وهو ما يغطي تكلفة الشقة في كثير من المشاريع. ويتم تسديد المبلغ مباشرة إلى حساب المستثمر، فيما يدفع المواطن الفارق، إن وجد، على شكل دفعات مرنة".
كما يشير إلى "وجود نوع آخر من القروض الإسكانية التي تصل إلى 60 مليون دينار عراقي، تدفع على مراحل، وفق شروط محددة تتعلق بمساحة الأرض وجائزة البناء، ويجري التقديم لها إلكترونيا عبر استمارة مخصصة".
ويرى الباحث العراقي، أن "ضبط آلية الاستثمار السكني وربطها بخطط إسكانية واقعية وممولة بقروض مدروسة، يمكن أن يشكل نقطة تحول حقيقية في مسار أزمة السكن في العراق، ويعيد الأمل للمواطنين بالحصول على سكن ملائم وبأسعار عادلة".
في وقت تشهد فيه العاصمة بغداد ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار العقارات، يتحدث مراقبون، بالقول إن "سوق العقارات بات إحدى القنوات الرئيسة لعمليات غسيل الأموال في البلاد". ويرجع مختصون هذا الارتفاع المتسارع في الأسعار إلى دخول أموال غير مشروعة في حركة البيع والشراء، ما أخل بالتوازن الحقيقي للسوق، وحوّل امتلاك منزل في العاصمة إلى عبء ثقيل على كاهل المواطن البسيط.
الحكومة مطالبة بمنافسة المستثمر
أظهرت إحصائيات تكلفة المعيشة لعام 2024 أن العراق احتل المرتبة 85 من بين 132 دولة من حيث ارتفاع كلفة المعيشة، كما جاء في المركز 81 فيما يتعلق بكلفة إيجار المنازل في معظم مدنه.
ويقول المحامي ماجد الحسناوي، لـ "سبوتنيك": "أزمة السكن في العراق تعد من أكثر الملفات تعقيدا وتشابكا"، مؤكداً أنه "رغم كثرة الوعود بتوفير سكن لائق وتقديم تسهيلات للمواطنين، إلا أن الواقع لا يزال يفتقر إلى حلول ملموسة تخفف من معاناة الطبقة المتوسطة وذوي الدخل المحدود".
ويضيف الحسناوي: "ارتفاع أسعار العقارات بشكل غير طبيعي جعل من حلم التملك أمرا بعيد المنال للمواطن البسيط"، مبينا أن "القطاع العقاري أصبح ميدانا لغسيل الأموال من قبل جهات نافذة وأصحاب رؤوس أموال ضخمة، يتحكمون بالسوق ويرفعون الأسعار لتحقيق أرباح طائلة على حساب المواطن".
ويشدد على أن "المستثمر اليوم لا يراعي حاجة المواطن، بل يسعى لتحقيق أقصى الأرباح، مستغلا غياب الرقابة الفاعلة وتراجع الدور الحكومي في ضبط الأسعار أو التدخل كمنافس حقيقي في السوق"، داعيا الحكومة العراقية إلى أن "تلعب دور المنافس الفعلي للمستثمرين، من خلال تبني مشاريع سكنية مدعومة، تسهم في كسر احتكار السوق وتضع حدا لجنون الأسعار".
وبحسب الحسناوي، لن تحل هذه الأزمة "دون إرادة سياسية واضحة وقرار شجاع بمحاسبة المتلاعبين بسوق العقارات، وفتح الباب أمام المواطن لامتلاك سكن لائق من خلال برامج دعم حقيقية وشراكة متوازنة بين الدولة والقطاع الخاص".
ويبلغ عدد سكان العراق، بما في ذلك إقليم كوردستان، بحسب النتائج النهائية للتعداد السكاني الأخير، 46 مليوناً و118 ألفا و793 نسمة، حيث يظهر هذا الرقم زيادة سكانية كبيرة مقارنة بتعداد عام 1957، الذي سجل آنذاك 6 ملايين و500 ألف نسمة، أي بارتفاع قدره نحو 39 مليوناً و618 ألف نسمة خلال العقود الماضية.