بعد الحصار على فنزويلا... ارتفاع في أسعار النفط وخبراء يحذرون من تداعيات ذلك على تونس

أثار الارتفاع المتواصل في أسعار النفط عالميًا مخاوف عدد من الدول المستوردة للطاقة، من بينها تونس، وذلك على خلفية إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض حصار وصفه بـ"الكامل والشامل" على جميع ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات التي تدخل فنزويلا أو تغادرها.
Sputnik
وأصدر ترامب في وقت سابق، تعليمات تقضي بحظر ومحاصرة ناقلات النفط المرتبطة بفنزويلا، معتبرا أن إدارته تنظر إلى الحكومة الفنزويلية بوصفها "تنظيما إرهابيا أجنبيا"، في خطوة من شأنها أن تزيد من تعقيد المشهد الطاقي العالمي وتضغط على الإمدادات في الأسواق الدولية.
وفي تطور لافت، أبلغت وزارة الداخلية الفنزويلية، الأربعاء الماضي، مجلس الأمن الدولي عبر رسالة رسمية، اتهمت فيها الولايات المتحدة بـ"القرصنة"، على خلفية احتجاز ناقلة نفط فنزويلية، ما ينذر بتصعيد سياسي وقانوني قد تكون له انعكاسات أوسع على أسواق الطاقة.
فنزويلا تحتج في الأمم المتحدة على مصادرة ناقلة نفط من قبل الولايات المتحدة
ويرى عدد من الخبراء في تونس أن هذا الحصار الأمريكي "ستكون له تداعيات مباشرة وغير مباشرة على الاقتصاد التونسي، الذي يعتمد بدرجة كبيرة على استيراد الطاقة، إذ قد تجد البلاد نفسها أمام معادلة دقيقة تجمع بين ارتفاع كلفة النفط، وتفاقم عجز الميزانية، وضغوط إضافية على ميزان الدفوعات، بما قد ينعكس في نهاية المطاف على الاستقرار الاجتماعي والقدرة الشرائية للمواطنين".

ضغط إضافي على الميزانية

قال الخبير المحاسب حاتم فتح الله، في حديث لوكالة "سبوتنيك": "محدودية الأثر عالميا لا تعني بالضرورة ضعف تداعياته على جميع الاقتصادات"، مبرزا أن "الوضع يختلف بالنسبة إلى تونس، حيث يتخذ ارتفاع أسعار النفط أبعادًا أكثر حساسية، بالنظر إلى هشاشة البنية الطاقية والمالية للبلاد".

وأشار فتح الله إلى أن "الاقتصاد التونسي يعتمد بشكل شبه كلي على استيراد الطاقة، ما يجعل أي تحرك في الأسعار العالمية ينعكس داخليا بصورة مضخمة"، وأضاف: "في حين تستطيع الاقتصادات الكبرى امتصاص الصدمات عبر الإنتاج المحلي أو الهوامش المالية، تجد تونس نفسها أمام معادلة دقيقة تختزل العلاقة بين النفط، والميزانية، وميزان الدفوعات، والاستقرار الاجتماعي".
فنزويلا تجدد التزامها بالتعهدات تجاه أمريكا رغم احتجاز ناقلات نفط صدرته كاراكاس
وتابع الخبير التونسي: "ميزانية الدولة لسنة 2026 بُنيت على فرضية سعر نفط في حدود 63.3 دولار للبرميل، وهو افتراض يبدو متحفظا نسبيا في سياق عالمي متوتر، غير أن التجربة التونسية خلال السنوات الأخيرة، أثبتت أن أي انحراف بين السعر المفترض والسعر الفعلي يتحول سريعًا إلى عبء مالي مباشر".
وبيّن فتح الله، أن "كل ارتفاع بدولار واحد في سعر برميل النفط يكلّف المالية العمومية ما بين 120 و150 مليون دينار سنويا، ما يعني أن بلوغ مستوى 70 دولارا للبرميل فقط من شأنه أن يفرض ضغطا يقارب المليار دينار، دون احتساب الآثار غير المباشرة على بقية المؤشرات الاقتصادية".
ولفت إلى أن "هذا العبء لا يقتصر على بند دعم المحروقات فحسب، بل يمتد إلى مجمل توازنات الميزانية، إذ تجد الدولة نفسها أمام خيارين أحلاهما مر، فإما تمرير الزيادة إلى المستهلك، بما تحمله من كلفة اجتماعية وتضخمية، وإما امتصاصها عبر الميزانية، بما يفاقم العجز ويرفع الحاجة إلى التمويل"، وأردف: "في كلتا الحالتين، يتحوّل النفط من متغيّر خارجي إلى عامل داخلي حاسم في رسم السياسات الاقتصادية".
مسؤولون: أمريكا تتعقب ناقلة نفط ثالثة قرب فنزويلا
وتابع فتح الله: " تشديد العقوبات الأمريكية على فنزويلا يعيد إلى الواجهة مسألة أسعار النفط، ليس فقط من زاوية الارتفاع الظرفي، بل من حيث عمق التأثير وحدوده، وإمكانية تحوّله إلى أزمة طاقية شاملة على غرار ما حدث سنة 2008 أو خلال الفترة الممتدة بين 2011 و2013".
ويرى فتح الله أن "البعد الطاقي لهذه العقوبات يظل الأكثر حساسية، بالنظر إلى طبيعة النفط الفنزويلي ذاته، الذي يعد نفطا ثقيلا عالي الكبريت، وهو ما جعله تاريخيا ملائما تقنيا لمصافي التكرير المتطورة في جنوب الولايات المتحدة، ولا سيما في ولايات خليج المكسيك، التي استثمرت منذ تسعينيات القرن الماضي مليارات الدولارات لتكييف بنيتها الصناعية مع هذا النوع من الخام".
فنزويلا تتهم أمريكا بارتكاب "سرقة سافرة" بعد احتجاز ناقلة نفط في البحر الكاريبي

تهديد للاستقرار الاجتماعي

وأوضح فتح الله، أن "تداعيات ارتفاع أسعار النفط لا تتوقف عند حدود الميزانية، بل تمتد بعمق إلى ميزان الدفوعات، باعتبار أن فاتورة الطاقة تمثل جزءا وازنا من إجمالي الواردات. وأي ارتفاع مستدام في الأسعار، وفق قوله، ينعكس مباشرة على تفاقم عجز الحساب الجاري".
وتشير التقديرات، بحسب فتح الله، إلى أن "زيادة بنحو عشرة دولارات في سعر برميل النفط قد ترفع عجز الحساب الجاري بما يعادل نقطة مئوية كاملة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يفرض ضغوطا إضافية على احتياطي العملة الصعبة، ويؤثر في استقرار سعر الصرف، ويغذي بدوره موجات تضخمية متلاحقة".
ويرى الخبير أن "هذا الارتفاع ينعكس تدريجيًا على كلفة النقل والإنتاج والتوزيع، قبل أن يستقر في نهاية المطاف في أسعار المواد الاستهلاكية والخدمات. وهكذا يتحول التضخم الطاقي إلى تضخم معيشة، يضغط على القدرة الشرائية للمواطنين، ويقلّص هامش المناورة أمام السياسة النقدية، التي تجد نفسها عالقة بين ضرورة كبح التضخم والحفاظ على الحد الأدنى من النمو الاقتصادي".
ترامب يعترف بمصادرة ناقلة نفط قبالة سواحل فنزويلا
وأضاف فتح الله: "العقوبات الأمريكية على فنزويلا تكشف، من جهة، أن سوق النفط العالمية لم تعد عرضة لانفجارات سعرية عشوائية كما كان الحال في السابق، لكنها، من جهة أخرى، تبرز هشاشة الاقتصادات المعتمدة على الطاقة المستوردة، وفي مقدمتها تونس"، مبينا أن "خطورة صدمات النفط بالنسبة إلى هذه الدول لا تُقاس بحجمها على المستوى العالمي، بل بمدى الجاهزية الداخلية لامتصاصها".
وختم بالقول: "هذا الواقع يعيد طرح السؤال الجوهري ليس حول مستوى سعر البرميل في حد ذاته، بل حول قدرة الاقتصاد الوطني على تحمّل تقلباته المتكررة، في ظل محدودية الهوامش المالية والاجتماعية المتاحة".
فنزويلا: حصار أمريكا لسفن النفط "غير عقلاني" و"تهديد بشع"

إعادة تقييم الاستراتيجية الطاقية

بدوره، قال الخبير الاقتصادي ياسين قويعة، في حديث لـ"سبوتنيك": "الحصار المفروض على فنزويلا يندرج ضمن جملة من العوامل الجيوسياسية التي تغذي حالة عدم اليقين في أسواق النفط العالمية، دون أن يُحدث في حدّ ذاته صدمة كبرى على مستوى العرض، وذلك بحكم تراجع الوزن الفعلي للإنتاج الفنزويلي في السوق العالمية خلال السنوات الأخيرة".
وأشار قويعة إلى أن "هذه الضغوط، وإن بدت محدودة من حيث الحجم، تبقى كافية لرفع منسوب التذبذب السعري، وهو ما ينعكس بصورة مباشرة على الدول المستوردة للطاقة، وفي مقدمتها تونس، التي تظل شديدة التأثر بتقلّبات أسعار النفط العالمية".
فنزويلا ترفض مصادرة سفينة نفطية ثانية قرب سواحلها من قبل الولايات المتحدة
ويرى الخبير الاقتصادي أن "تأثير هذه التطورات على الاقتصاد التونسي يمر أساسا عبر قناة الأسعار العالمية، من خلال ارتفاع كلفة الواردات الطاقية وتزايد الضغوط على الميزان التجاري والمالية العمومية، وليس عبر علاقات مباشرة مع فنزويلا، التي تبقى محدودة أو شبه منعدمة في هذا المجال".
وأوضح قويعة أن "هذا السياق الدولي المضطرب يدفع تونس إلى إعادة تقييم استراتيجيتها الطاقية، عبر تسريع وتيرة الاستثمار في الطاقات المتجددة، وتحسين النجاعة الطاقية، وتنويع مصادر التزود"، مؤكدا أن "هذه الخيارات لا ينبغي أن تكون مجرد ردّ فعل ظرفي على أزمة بعينها، بل مسارا استراتيجيا طويل الأمد يهدف إلى تحصين الاقتصاد الوطني من صدمات خارجية متكررة وتعزيز قدرته على الصمود".
مناقشة